سجن “سديه تيمان”.. “غوانتانامو” إسرائيل

    

24/6/2024 - الجزيرة نت  - ماجدة ملاوي كاتبة وصحفية أردنية

ما بين النقب وغزة، توجد قاعدة إسرائيلية سرّية يُطلَق عليها  “سديه تيمان”.

ومعنى هذا الاسم “حقل الجنوب”، وهي قاعدة تم استحداثها وتوسيعها بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لتكون معتقلا يضم آلاف الأسرى الغزيين الذين تم خطفهم وجرهم إلى هذا السجن، وحقل الجنوب هذا يصفه المعتقلون الذين أفرج عنها بالجحيم، لما عانوه من صنوف شتى من التنكيل والتعذيب.

وبالرغم من أن معنى حقل يرمز إلى الخصوبة، فإن دولة الاحتلال أرادت اختيار تسمية رمزية لهذا المعتقل بما يوحي بالإيجابية لتخفيف الطابع السلبي للمكان، فتسمية سجن باسم “حقل الجنوب”، يمكن أن تكون محاولة لتلطيف الاسم، أو قد تكون تعبيرا عن الظروف القاسية التي تشبه العمل في الحقول، إذ أطلقت عليه بعض المنظمات الحقوقية “غوانتانامو إسرائيل”.

السجن الإداري نهج بريطاني

قد يبدو الحديث عن المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية نوعا من الترف مقارنة بشلال الدماء الذي يُهدَر كل يوم في غزة، لكن تاريخ الصهاينة الدموي في فلسطين الذي شمل كل ما يتعلق بأهل الأرض، لم يستثن من وحشيته طفلا أسيرا أو شيخا أو مريضا في السجون، وترافق ذلك مع ضعف النقاش لمنظمات إنسانية دولية حول حقوق الإنسان والعدالة إذا ما كان يخص الفلسطيني، لتصبح هذه المنظمات هي أيضا أسيرة لإرادة دولية ظالمة، تطبق قوانينها الإنسانية بازدواجية.

واللافت أن دولة الاحتلال تنتهج النهج ذاته الذي اتبعه المستعمر البريطاني خلال احتلاله فلسطين في التعامل مع الأسرى، حيث كان يستخدم الاعتقال الإداري لحبس الأسرى دون وجود تهمة وهو النهج ذاته الذي تتبعه إسرائيل حاليا، ففي عام 1930، سجن البريطانيون الثوار وأعدموهم بعد مدة من اعتقالهم في سجن عكا، وأصدروا مؤبدات بحق 23 ثائرا ومناضلا فلسطينيا.

وبالعودة إلى سجن “سديه تيمان”، وبينما يحيك الإعلام العبري الكذب عن أحوال المعتقلين الإسرائيليين في غزة ويروي مزاعم خيالية عن معاناتهم، تتكشف كل يوم حقائق جديدة عن هذا السجن بعد أن كانت إسرائيل تحيطه بالغموض والسرّية، فلا يُعرف عدد الأسرى المعتقلين فيه بالضبط وماذا يدور في أرجائه؟ إذ تفيد المعلومات التي حصلت عليها منظمات حقوقية دولية وفلسطينية بأن هذا المعتقل لم يكن إلا حقلا لجز الغزيين كما يُجز العشب.

معتقل سري للقتل البطيء

وأمام المجازر التي ترتكبها إسرائيل يوميا في غزة، لم يكن مستغربا أن يكون هذا السجن امتدادا للهمجية والوحشية المتطرفة التي تُمارَس ضد المعتقلين، والتي أدت حتى الآن إلى وفاة 35 معتقلا غزيا على الأقل، كما وصف غزيون كانوا معتقلين هناك القاعدة بأنها جحيم يعيشونه كل لحظة، وموت بطيء، فمن يخرج كأنما عاد إلى الحياة.

ولا تُعرف حتى الآن الأعداد الحقيقية للأسرى الفلسطينيين في هذا المعتقل بسبب التعتيم الذي تفرضه دولة الاحتلال على هذه القاعدة السرّية، لكن بعض التقارير أفادت بأن هناك نحو 4000 معتقل فلسطيني من المدنيين، جرى اعتقالهم من غزة مكبلي الأيدي ومعصوبي الأعين بعد تجريدهم من ملابسهم والتنكيل بهم، دون أن يُعرف مصير الآلاف منهم حتى الآن.

وأشارت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير أعدته أخيرا عن سجن “سديه تيمان” إلى الظروف القاسية والوحشية التي تُمارَس على المحتجزين هناك بدون توجيه تهم، وتشمل تلك الظروف تعريض المعتقلين للتعذيب وسوء المعاملة، مثل استخدام الصدمات الكهربائية والضرب، وحرمانهم من الرعاية الطبية، كما ترددت أخبار عن إجبار المعتقلين على استخدام حفاضات والتغذية عبر الأنابيب.

كما أفادت منظمات حقوقية بوجود أدلة بشأن إجراء عمليات جراحية في المعتقل من دون تخدير، واحتجاز المعتقلين لأيام في أوضاع قاسية، وتكبيل أطرافهم بصورة أدت إلى بتر الأعضاء.

وأثارت هذه الأوضاع حنق منظمات حقوقية، طالبت بالتحقيق في الانتهاكات بعد أن وصف معتقلون سابقون تجاربهم بالتعرض للتعذيب والإذلال والصعق الكهربائي، مما أجبر دولة الاحتلال على الموافقة على تسهيل زيارة عدد من المنظمات الحقوقية لتلك القاعدة التي لم تُعلَن تفاصيلها وموعدها حتى الآن.

الأسرى الفلسطينيون.. مناضلون غُيبت معاناتهم

أوضاع الأسرى الغزيين في “سديه تيمان” ليست أكثر إيلاما من بقية الأسرى في السجون الإسرائيلية السيئة السمعة، التي شهدت طوال سنوات العديد من عمليات إعدام وقتل الأسرى دون محاسبة، ولطالما حاول الاحتلال تغييب معاناة الأسرى، فلا أحد يسمع صوت أنينهم ليلا، ولا أحد يرى مشهد التقاطهم أنفاسهم الأخيرة، يموتون وحدهم في سراديب غامضة، بلا وداع ولا نظرة أخيرة، يقبعون في غيابات الجب سنين وسنين، يُقتلون ويستشهدون في اليوم آلاف المرات، وكأن تصاعد أنفاسهم بغير انقطاع استفزاز لسجانهم.

وتكشف الأحداث كل فترة عن آلاف القصص المؤلمة التي حدثت وما زالت تحدث في سجون الاحتلال، فالأسرى الفلسطينيون يواجهون حملة مسعورة يقودها المتطرف بن غفير، فهؤلاء الأسرى المنسيون تتجاهلهم منظمات حقوق الإنسان، وتَعُدهم أرقاما ليس أكثر، فالأسير الفلسطيني ليس أفضل حالا ممن يقتله رصاص جندي بدم بارد، لكن ذاك يُقتل مرة واحدة، أما الأسير فيُقتل على مراحل.

والتهم جاهزة دائما بحق الفلسطيني، سواء كان في الضفة أو القدس أو غزة أو الداخل المحتل، هي تهم معلبة ومعدَّة سلفا، لكن الفلسطيني يعلم أن تهمته الحقيقية التي تستوجب القتل أو الأسر بنظر الصهاينة، هي بقاؤه في أرضه.

بعد التصعيد العسكري في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، زادت أعداد المعتقلين الفلسطينيين بشكل كبير، حيث ذكرت تقارير أن إسرائيل اعتقلت أكثر من 11 ألف فلسطيني حتى الآن، نصفهم بعد أكتوبر.

اللافت أنه بالرغم من هذه القصص المؤلمة لهؤلاء الأسرى وما يعانونه من جحيم لا يتوقف، فإن بعض المتصهينين ما زالوا يرددون في حيرة “لماذا حدث طوفان الأقصى؟ ولماذا ثارت المقاومة في غزة؟ ولماذا تصر حماس على الإفراج عن كامل الأسرى الفلسطينيين؟ ولماذا لا يترك المقاومون السلاح؟”.