بتسيلم - 24/5/2024
أنا طبيب جرّاح وكنت أعمل في المستشفى الإندونيسيّ في بيت لاهيا. ثكلت في الحرب والدي وزوجتي لمى (31 عامًا) وابنتي البكر ريم، وبقي لي ولدان هُما أحمد (5 سنوات) ورزان (3 سنوات).
في 7 أكتوبر 2023 كنت في المنزل، لأنّه كان يوم عُطلة أسبوعيّة ولم أكُن مُناوبًا. عندما بدأ وُصول الجرحى والشهداء استُدعيت للعمل في المستشفى. كان ذلك يومًا صعبًا للغاية، إذ وصلتْ أعداد كبيرة من المصابين، ولم يكن ذلك سوى بداية فترة عصيبة.
د. خالد حمودة وابنته رزان، قبل الحرب.
رغم الوضع، بقينا في الشمال وواصلت أنا عملي. كانت جثث الشهداء تصل إلى المستشفى أشلاء أو محترقة، وبعضها جثث أطفال. رأيت مناظر صعبة للغاية. جثث الشهداء أخذت تتكوّم في المستشفى، والجرحى ممدّدون في كلّ مكان – في قسم الطوارئ، في الممرّات وفي قسم العناية المكثّفة. كثيرون جدًّا وصلوا إلى غرف العمليّات الجراحيّة.
لم يكن المستشفى مهيّأً للتعامُل مع هذه الأعداد الهائلة من المُصابين. عالجنا الحالات الصعبة جدًّا واضطُررنا إلى إهمال جرحى آخرين – ما أدّى إلى موتهم أحيانًا. بسبب انقطاع الكهرباء اعتمدنا على مولّدات الكهرُباء لأجل إجراء العمليّات، وأحيانًا - بسبب نقص الوقود - اضطُررنا إلى الاعتماد على الطاقة الشمسيّة. كذلك كان هناك نقص شديد في الأدوية والطعام للمرضى والجرحى، وأيضًا للطواقم الطبّيّة.
خلال أسبوع عملي الأخير في المستشفى كان الوضع سيّئًا للغاية. كان ذلك قبل وقف إطلاق النار. حاصر الجيش الإسرائيليّ المستشفى طيلة ثلاثة أيّام ثمّ اقتحمه عندما كنت في المنزل. كنت على اتّصال مع الأطبّاء هناك وهُم حدّثوني عن الاقتحام.
تمكّنت إدارة المستشفى من إجراء تنسيق لإخلاء المرضى، وتمّ نقلهم جميعًا إلى جنوب القطاع، ثمّ أغلق المستشفى.
في يوم الأحد الموافق 3.12.23 كنت في المنزل مع أسرتي. كانت شقّتنا في الطابق الأرضيّ من بناية ذات ثلاث طبقات، وكان في البناية نحو خمسين شخصًا من أقاربنا ومعارفنا. عند السّاعة 7:15 جلستُ لأحتسي القهوة مع زوجتي والأولاد وجارتينا – الممرّضتين شروق وشهد البراوي.
ثمّ سمعنا انفجارًا وبسُرعة ولجنا جميعًا إلى الشقّة، إلى إحدى الغرف. يبدو أنّ صاروخًا أصاب بنايتنا، لكنّنا لم نُدرك ذلك. مضت ثوانٍ معدودة وإذ بصاروخ ثانٍ يُصيب البناية. سمعت ضجّة خافتة وأخذت تسقط علينا حجارة، زجاج وحيطان. جاء الجيران وساعدونا. أخرجونا وأجلسونا عند مدخل المنزل.
في هذه المرحلة لم أعرف بالضبط مَن قُتل ومَن جُرح مِن جرّاء القصف. لكنّ شهد البراوي التي كانت تجلس بجانبي تمامًا أصيبت بشظايا في رأسها وجسمها، فأخذتها سيرًا على الأقدام مسافة كيلومتر تقريبًا إلى مدرسة خليفة في بيت لاهيا. ظننت أنّه يمكنني من هناك استدعاء سيارة إسعاف. عندما اتّصلت بالهلال الأحمر قالوا إنّه لا يُمكنهم إرسال سيّارة إسعاف إلى بنايتنا، لأنّ منطقتنا مُغلقة بعد أن صُنّفت كمنطقة حمراء وهم ممنوعون من الوصول إليها. كلّ من يدخلها يُعتبر هدفًا من ناحية الجيش الإسرائيليّ. أخلوني أنا وشهد بسيّارة إسعاف إلى مستشفى كمال عدوان، إذ كنت أنا أيضًا مصابًا بجُروح طفيفة من جرّاء الشظايا.
أثناء وُجودي في المستشفى علمت بأنّ الصّاروخين أطلقا على شقّة والديّ، وأنّ صاروخًا ثالثًا أطلق على البناية عندما كان الجيران يحاولون إخراجهم، فقُتل جرّاءه والدي وزوجتي لمى وابنتي ريم وجيراننا شروق البراوي وسعيد حمّودة وحسام أبو ربيع. لاحقًا، جلبوا الجثث إلى المستشفى، فذهبت إلى المشرحة للتعرّف على جثّة زوجتي. عندئذٍ مرّ بي ممرّض يجرّ نقّالة عليها جثّة ابنتي. صُعقت، لم أصدّق ما تراه عيناي. ثمّ علمت بنجاة أحمد ورزان وأنّهما سالمان.
أصيبت والدتي، منى حمّودة (62 عامًا)، بكسور في ذراعيها، وأصيبت زوجة أخي عطا، رنيم حمّودة (31 عامًا)، بكسور في الكاحلين وبجُروح وكدمات وحروق، كما أصيبت ابنتها منى (12 عامًا). بقيت في مستشفى كمال عدوان حيث تمّت معالجة جُروحي الناجمة عن الشظايا. نُقلت والدتي وبقيّة جرحى القصف إلى مستشفى العودة في جباليا. بقيّة جثث الشهداء بقيت تحت الأنقاض لأنّهم لم يتمكّنوا من انتشالها.
عندما خرجنا أمرنا الجنود بأن نخلع ثيابنا ونبقى بالسّروال الداخليّ وأن نمشي هكذا في الشارع وُصولًا إلى معسكر الجيش الذي أقاموه في بيت لاهيا
بعد أن عولجت بقيتُ في مستشفى كمال عدوان كنازح، وفي هذا الوقت تقدّمت قوّات الجيش حتى وصلت إلى المستشفى. كنا محاصرين فيه طيلة سبعة أيّام. لم يكن ممكنًا الدّخول إليه أو الخروج منه. غرف العمليّات تعطّلت وبقي فقط عدد قليل من الأطبّاء الذين ما زالوا قادرين على العمل. غرف الولادة توقّفت عن العمل وقسم الأطفال كان بالكاد يعمل. استمرّ هذا الوضع حتى 12.12.23. في ذلك اليوم وصلت الدبّابات حتى بوّابتي المستشفى الشماليّة والغربيّة، وعبر مكبّرات الصوت أمر الجنود الجميع بأن يُخلوا المستشفى.
كانت تعليماتهم أن يخرج الجميع مع بطاقة الهُويّة. بعد ذلك فصلوا الأطبّاء وأعضاء الطاقم الطبّي عن المدنيّين، وضمّوني أنا إلى الأطبّاء. عندما خرجنا أمرنا الجنود بأن نخلع ثيابنا ونبقى بالسّروال الداخليّ وأن نمشي هكذا في الشارع وُصولًا إلى معسكر الجيش الذي أقاموه في بيت لاهيا. عندما وصلنا إلى المعسكر صوّرونا.
كان هناك مئات الأشخاص، وكان الجنود يوجّهون بعضهم إلى جهة اليمين وبعضهم إلى جهة اليسار. وجّهوني إلى اليسار ثمّ جاء ضابط إسرائيليّ يتحدّث العربيّة جيّدًا وسألني ما رقم هويّتي وما اسمي، وعندما سألني ما مهنتي وأجبته، أمرني بأن أدخل إلى حفرة كانوا قد حفروها وبأن أحني رأسي. قال لي "أنت ستبقى معنا".
من تجرّأ على الكلام ركله الجنود وضربوه بسلاحهم. كنّا في رحلة مُخيفة نحو المجهول
كبّلوا يديّ بأصفاد بلاستيكيّة وعصبوا عينيّ بقطعة قماش. ثمّ انهالوا علينا يضربوننا ويخبطوننا بجدران الحفرة ويشتموننا. اتّهمني أحد الجنود بأنّني من نخبة حماس، نخبة القسّام. قلت له إنّني طبيب، فشتمني وقال: "فليأت السّنوار ويساعدك".
احتجزونا في المعسكر نحو ساعتين ثمّ أدخلونا إلى شاحنة وسارت بنا ونحن محشورون فيها حشرًا طوال ثلاث ساعات. لا أعرف كم كان عددنا بالضبط. كان البرد شديدًا ولم نستطع أن نتحرّك. كان الأمر صعبًا جدًّا. لم أعرف أين أنا ولا مَن يوجد إلى جانبي. من تجرّأ على الكلام ركله الجنود وضربوه بسلاحهم. كنّا في رحلة مُخيفة نحو المجهول.
أثناء سيرها توقّفت الشاحنة عدّة مرّات بشكل فجائيّ، وكنّا في كلّ مرّة نقع على بعضنا البعض. في المرّة الأخيرة توقّفت الشاحنة وبقيت مكانها طيلة ساعتين. تجمّدنا من البرد ولم نعرف إلى أين يأخذوننا، وفي مرحلة ما صرنا نصرخ. أنزلنا الجنود في ساحة أسفلت. أعتقد أنّنا أصبحنا خارج قطاع غزّة، لأنّنا لم نسمع انفجارات أو قصفًا.
في السّاحة أجبرونا أن نسجد وأيدينا ما زالت مكبّلة وأعيننا معصوبة. بقينا هكذا نحو ساعتين. كان الجنود يضربون كلّ أسير يأتي بأيّة حركة. سألني أحد الجنود عن مهنتي وعندما قلت له إنّني طبيب جرّاح في المستشفى الإندونيسيّ انقضّ عليّ وركلني عدّة ركلات قويّة جدًّا.
سألني أحد الجنود عن مهنتي وعندما قلت له إنّني طبيب جرّاح في المستشفى الإندونيسيّ انقضّ عليّ وركلني عدّة ركلات قويّة جدًّا
بعد ذلك أخذونا إلى مكان كان فيه ضبّاط بلباس مدنيّ. هناك أزالوا العصبة عن عينيّ وسجّلوا تفاصيلي الشخصيّة: الاسم، رقم الهُويّة، إلخ. بعد ذلك أدخلونا إلى غرفة من الصّفيح واحتجزونا فيها طيلة 24 ساعة، تقريبًا بدون طعام وماء سوى أنّهم جلبوا لي شريحة خُبز واحدة وماءً لأشرب مرّة واحدة. وقد سمحوا لنا بدُخول المرحاض مرّتين.
بعد ذلك أدخلونا إلى شاحنة وأخذونا إلى مركز اعتقال، لم أعلم أنّه في النقب في مكان يُدعى "سْديه تيمان" إلّا بعد أن أطلق سراحي. سجنوني في هذا المُعتقل طيلة 21 يومًا، ومن هُناك أطلق سراحي في 2.1.24.
عندما وصلنا إلى مركز الاعتقال أدخلونا إلى غرفة في المدخل حيث قاموا بتصنيفنا. أخذوا تفاصيلنا الشخصيّة مرّة أخرى ثمّ أجري لنا فحص طبّي. بعد ذلك جلبوا لنا ملابس أسرى رماديّة فارتديناها. سجّلوا رقم الأسير، ورسم أحد السجّانين على الظهر دائرة وفي داخلها X. لا أعلم ماذا تعني هذه الإشارة.
كان مركز الاعتقال عبارة عن قاعة كبيرة تم تقسيمها إلى زنازين، وفي كلّ زنزانة نحو 100 أسير.
منذ لحظة وصولي إلى هناك أجبروني على البقاء راكعًا طوال ثلاثة أيّام. ما عُدت أدرك الوقت، لا في أيّ يوم أنا ولا في أيّة ساعة من اليوم. بعد ثلاثة أيّام ألقوا عليّ مهمّة "شاويش" المعتقل، وكانت مهمّتي وسيطًا بين الأسرى والسجّانين لأنّني أعرف اللّغة الانجليزية ولا يوجد لي سِجلّ أمني. لا يوجد عليّ شيء.
لم أتمكّن من النوم سوى لأوقات قصيرة جدًّا، لأنّ الجنود، بغرض منعنا من النوم، كانوا يخبطون على سياجات وجدران الصّفيح. وجبة الفطور كانت عبارة عن رغيف خُبز ومربّى وقطعة جُبن.
ذات يوم عاقبوني لأنّني حاولت التحدّث مع أسرى آخرين. أوقفوني لِصْقَ الحائط وربطوا يديّ إلى فوق بأصفاد معدنيّة. أبقوني واقفًا هكذا مدّة نصف ساعة ورُبّما ساعة، دون أن أتحرّك
ذات يوم عاقبوني لأنّني حاولت التحدّث مع أسرى آخرين. أوقفوني لِصْقَ الحائط وربطوا يديّ إلى فوق بأصفاد معدنيّة. أبقوني واقفًا هكذا مدّة نصف ساعة ورُبّما ساعة، دون أن أتحرّك.
في ظهيرة أحد الأيّام جلب الجنود الدكتور عدنان البُرش، طبيب يعمل في مستشفى الشفاء، وأطبّاء آخرين. ناداني الجنود لكي أستقبلهم وأوزّع عليهم بطّانيّات. هُم زملائي في المهنة وأنا أعرفهم جيّدًا. كانوا في حالة يُرثى لها، نفسيًّا وجسديًّا. كانت علامات التعذيب والتنكيل بادية عليهم.
د. عدنان البرش، طبيب من مستشفى الشفاء اعتُقل في مستشفى العودة. أُعلِنت وفاته يوم 19.4.24 في سجن عوفر.
توجّهت إلى الدكتور عدنان، وقد كان معصوب العينين. قلت له: "هذا أنا، د. خالد. لا تقلق". قال لي إنّه يعاني آلامًا شديدة جرّاء الضرب الذي تلقّاه من الجنود. وقال أيضًا إنّه قد جرى اعتقاله من مستشفى العودة، وسألني "أين نحن؟". أجبته بأنّنا في مركز اعتقال لا نعرف في أيّ موقع هو. ثمّ كرّر قائلًا: "طوّقونا واعتقلونا في مستشفى العودة".
قال لي الدكتور عدنان إنّه يحسّ بوجود كُسور في جسمه، في منطقة الصّدر. قدّمت له طعامًا ثمّ خلد إلى النوم. في اليوم التالي ناداني وقال لي إنّه يعرف والدي. حدّثني أنّ والدتي موجودة في مستشفى العودة، وأنّهم أجروا لها عمليّة لتثبيت العظم المكسور في كلتا ذراعيها.
حتى ذلك الحين لم أحصل على أيّة معلومة بخُصوص عائلتي، وتحديدًا عن والدتي. عانقت الدكتور عدنان من شدّة تأثّري وسُروري إذ طمأنني على عائلتي، وخاصّة والدتي. ناولته قُرص "أكامول" لأنّه كان يعاني كثيرًا. اشتكى من أوجاع على مدار يومين، ولكن لم يقدّموا في مركز الاعتقال أيّ علاج طبّي سوى أقراص "أكامول". بعد ذلك نقلوا الدكتور عدنان وبعض الأطبّاء الآخرين إلى مكان آخر – لا أعلم إلى أين.
أطلقوا سراحي في 2.1.24. جلبوني مع أسرى آخرين إلى معبر كرْم أبو سالم وهناك أزالوا الأصفاد عن أيدينا والعصبات عن أعيننا. مشينا نحو ثلاثة كيلومترات إلى أن وصلنا معبر رفح حيث كانت تنتظرنا مركبة تابعة لهيئة الأمم المتحدة.
توجّهت من هناك إلى خيمة أقارب لي نزحوا إلى مخيّم الشابورة للّاجئين، وبقيت عندهم نحو ثلاثة أشهُر. خلال هذه الفترة تمكّنت من ترتيب إحالات طبّية لمُعالجة والدتي وزوجة أخي في مصر. جاءت كلتاهُما سيرًا على الأقدام عبر شارع الرّشيد، رغم أنّ الوضع خطير جدًّا، وجلبتا معهما ابنة أخي وابني أحمد وابنتي رزان. في 5.3.24 سافرت زوجة أخي ووالدتي وابنة أخي إلى مصر، ثمّ تمكّنت أنا أيضًا من السّفر إلى مصر مع ابني وابنتي في 28.3.24. ما زالت والدتي وزوجة أخي تتلقّيان العلاج الطبّي هنا.
أقاربي الذين استُشهدوا جرّاء القصف بقوا تحت الأنقاض طوال 20 يومًا، إلى أن انتشلهم ودفنهم جيران وأقارب ممّن بقوا في شمال القطاع.
- سجلت الإفادة باحثة بتسيلم الميدانيّة ألفت الكُرد في 24.5.24.
أفراد عائلة خالد حمّودة الذين استُشهدوا جرّاء قصف منزل العائلة:
إضافة إليهم استُشهد اثنان من جيرانهم: