نبيلة مقداد, (39 عامًا)، أمّ لخمسة، من سكّان مدينة غزّة

  

بتسيلم -15/3/2024

في يوم 7.10.23 صباحًا بدأ القصف الإسرائيليّ المكثّف على حيّنا، حيّ المخابرات، في مدينة غزّة. في اليوم التالي غادرتُ المنزل مع الأولاد: آدم (5 أعوام)، منّة الله (13 عامًا)، أحمد (16 عامًا)، مرام (19 عامًا) ومحمّد (20 عامًا). بقي زوجي محمود (47 عامًا) في المنزل وانتقلنا نحن إلى منزل أختي إكرام (36 عامًا)، في حيّ النصر غربيّ المدينة. بعد يومين، اشتدّت كثافة القصف على حيّنا أكثر وأصبح الوضع مخيفًا جدًّا، فانضمّ إلينا زوجي في منزل شقيقتي، الذي لم يعد فيه حينئذٍ كهرباء أو مياه جارية.

بعد أسبوع، ألقى الجيش الإسرائيليّ مناشير على الحيّ الذي تسكن فيه شقيقتي وأمر جميع السكّان بإخلاء شمال المدينة والنزوح إلى جنوب القطاع.

أوقفوني أنا جانبًا، ثمّ أمرتني جنديّة بخلع ثيابي والبقاء بملابسي الداخليّة وبحمّالة الصدر فقط

لم نتمكّن من مغادرة المدينة لأنّه لم يكن لدينا نقود وليس لدينا أيّ أقارب في الجنوب أيضًا، لذلك انتقلنا إلى عيادة الأونروا في الحيّ نفسه. نمنا جميعًا ملتصقين الواحد بالآخر، على فرشة واحدة في الردهة، مع بطانية واحدة لم تكن كافية لتغطيتنا جميعًا، وشعرنا ببرد شديد. نامت أختي وعائلتها بجانبنا. كان هناك قصف متواصل في منطقة العيادة أيضًا، وكان الأمر مخيفًا حقًا، وكان هناك نقص في الماء والطعام. مكثنا هناك ثلاثة أسابيع تقريبًا، وطوال تلك الفترة لم نتلقَّ سوى رزمتين من الغذاء.

نبيلة مقداد. تصوير: ألفت الكرد، بتسيلم، 26.2.24.

نبيلة مقداد. تصوير: ألفت الكرد، بتسيلم، 26.2.24.

عندما علمنا باقتراب الجيش من المنطقة، هربنا من هناك إلى منزل والديّ في حيّ الشيخ رضوان، وبالفعل، في اليوم التالي سمعنا أنّ الدبّابات وصلت إلى منطقة العيادة، فكنّا محظوظين بأنّنا هربنا في الوقت. لم يكن لدى والديّ أيضًا ماء أو مكوّنات غذائيّة للطبخ أيضًا. حتّى الدقيق لم يكن من الممكن الحصول عليه.

سكنّا لدى والديّ نحو ثلاثة أسابيع، حتّى سمعنا في ليلة 2.12.23 أصوات دبّابات الجيش تقترب وقصف مدفعيّ. سقطت إحدى القذائف على منزل الجيران، أمام منزل والديّ. صرخ أولادي من شدّة الخوف وشعرتُ حقًا بأنّ موتنا جميعًا يقترب. في الفجر اتّصلنا بالدفاع المدنيّ وطلبنا منهم أن يأتوا لإنقاذنا. وصلوا قرابة الساعة 6:00 صباحًا وأخذونا جميعًا إلى المدرسة الحكوميّة في الحيّ. تمكّن كلّ واحد منّا من أخذ حقيبة فقط معه، وعندما وصلنا إلى هناك تمركزنا في داخل أحد الصفوف. كانت أختي إكرام وعائلتها معنا أيضًا، كما حضر بعض إخوتي إلى هناك مع عائلاتهم. بعد نحو ساعتين من وصولنا إلى المدرسة، عاد أخي إيهاب (47 عامًا) إلى منزله ليحضر بعض الأشياء سويّةً مع أحد أبنائه، محمّد (24 عامًا)، ومع ابنَي أخينا، مهنّد (27 عامًا) وخليل زاهر (24 عامًا)، وأثناء مرورهم في الشارع قُتلوا. عندما أبلغوني بذلك انفجرت في البكاء. أحضروا جثامين أربعتهم إلى المدرسة. ودّعناهم ثمّ دفنّاهم في ملعب كرة قدم بجانب المدرسة.

أدخلونا إلى قفص لا يحتوي إلّا على فرشة صغيرة وبطانيّة رفيعة لم تكن كافية لنا جميعًا

في 20.12.23 قُتِل أخي هاني (44 عامًا) أيضًا بنيران الجيش عندما خرج من منزل والدة زوجته، حيث يسكن سويّةً مع زوجته وأولادهما الخمسة، ليحضر لهم الطعام والشراب. حينئذٍ لم أعد قادرة على تحمّل الألم وبدأتُ بالصراخ. دفنوه قبل أن أتمكّن من توديعه. منذ ذلك الحين وحالتي النفسيّة في تدهور مستمرّ.

كما كان هناك نقص في الماء والغذاء في المدرسة، وكانت الظروف فيها صعبة للغاية. لم نحصل حتّى على فرشات، لذلك نمنا على بعض البطانيّات التي قدّمها لنا الناس.

في 24.12.23، بعد أربعة أيّام من قتل هاني، حضرت دبّابات وجرّافات الجيش الإسرائيليّ إلى المدرسة. دمّرت الجرّافات الجدران ثمّ دخلت إلى المدرسة وأمرنا الجنود عبر مكبّرات الصوت بأن نخرج من المبنى. خرج الجميع وقام الجنود بفصل الرجال عن النساء والأطفال ثمّ أمروهم بخلع ثيابهم والبقاء بملابسهم الداخليّة. قسّموهم إلى مجموعات من أربعة أشخاص في كل مجموعة، وبدأوا باقتيادهم باتّجاه مسجد التقوى القريب من المدرسة. وكانت بجانبه عدّة حفر كبيرة وكان الكثير من الجنود يتجوّلون هناك، فخشيتُ أنّهم سيدفنوننا جميعًا هناك.

أمسكت بيد آدم ابن الخامسة. لم يتوقّف عن البكاء لأنّه كان يعاني أيضًا من عسر الهضم وكان يتألّم. فجأةً، أمرني أحد الجنود بأن أترك يد آدم وأعطيه لأخته. وأمرني جنديّ آخر بالتنحّي جانبًا وبإعطائه هويّتي. بدأ الجنود بقراءة أسماء النساء وبعد ذلك قام بعض الجنود باقتياد النساء إلى منزل مجاور. أوقفوني أنا جانبًا، ثمّ أمرتني جنديّة بخلع ثيابي والبقاء بملابسي الداخليّة وبحمّالة الصدر فقط. ففعلتُ ذلك وقامت هي بفحصي بجهاز في جميع أنحاء جسمي، وبعد ذلك أمرتني بارتداء ثيابي ثمّ جاء محقّق وبدأ يسألني عمّا فعلتُه في السابع من أكتوبر وهل أكلت الحلويات في ذلك اليوم. سألني إذا كان هناك أعضاء من حماس في المدرسة، وعندما أجبتُ بأنّني لا أعرف، قال إنّني إذا لم أساعده في الحصول على معلومات، فسيأخذني الجيش ولن أرى ابني الصغير بعد ذلك.

بعد ذلك اقتادني الجنود إلى سيّارة الجيب وقاموا بتغطية عينيَّ بقطعة قماش ثمّ قيّدوا يديَّ بالأصفاد من الأمام. أصعدوني مع بعض النساء الأخريات إلى سيّارة الجيب وبدأنا بالسفر. تمكّنتُ من رفع قطعة القماش عن عينيّ قليلًا ورأيتُ أنّنا في منطقة البحر ورأيتُ لافتة مكتوبًا عليها "زيكيم". أنزلونا من سيّارة الجيب وأجلسونا مكبّلي الأيدي على الأرض لمدّة ساعة. بعد ذلك اقتادنا بعض الجنود إلى زنزانة وبعد بعض الوقت أخرجونا وأصعدونا إلى سيّارة الجيب ثانيةً وسافرنا.

في أثناء السفر، كلّما كنّا نرفع رؤوسنا أو نتحرّك لأنّ الأصفاد تؤلمنا، كانوا يضربوننا على رؤوسنا.

أنزلونا من سيّارة الجيب ودفعتني إحدى الجنديّات فسقطتُ على الأرض. شعرتُ بأنّني أنزف تحت عيني اليسرى، لكنّ بعض الجنود حملوني واقتادوني إلى غرفة في منشأة اعتقال. في الغرفة، أزالوا الأصفاد وعصابة العينين عنّي ثمّ أمروني بخلع ثيابي بالكامل. قامت بعض الجنديّات بفحصي بجهاز إلكترونيّ وأعطوني "ترينينغ" رماديّ اللون لارتدائه. بعد ذلك دخل طبيب إلى الزنزانة وفحصني، وبعد أن أخبرتُه بأنّني سقطتُ وبأّنّني أشعر بآلام أعطاني أكامول فقط.

لم أنمْ في الليل وكنتُ أفكّر طوال الوقت في زوجي وأولادي فقط. لم أكن أعرف حتّى إنْ كانوا على قيد الحياة

بعد ذلك أخرجني الجنود مع عدّة نساء أخريات إلى الساحة وأيدينا مقيّدة وأعيننا معصوبة، وتركونا على هذه الحال. كان الطقس باردًا جدًّا في الخارج، وكانوا يصرخون ويضحكون علينا عندما رأوا أنّنا نعاني. أدخلونا إلى قفص لا يحتوي إلّا على فرشة صغيرة وبطانيّة رفيعة لم تكن كافية لنا جميعًا. طلبنا من الجنود المزيد من البطانيّات لكنّهم رفضوا. بقينا هناك على هذه الحال ثمانية أيّام، دون طعام تقريبًا. في الليل حصلنا على كسرة خبز جافّة مع بعض اللبنة وتفّاحة. كان علينا أن نأكل وأيدينا مقيّدة، وهكذا ذهبنا إلى المرحاض أيضًا. كان ذلك مروّعًا. في إحدى المرّات سكب أحد الجنود اللبنة على الأرض وشتمنا. في الليل بالكاد سمح لنا الجنود بالنوم. شغّلوا موسيقى صاخبة، وخبطّوا على الأبواب الحديديّة، وصرخوا علينا وشتمونا.

في 31.12.23 أخرجونا من القفص وجرّونا إلى الحافلة كما يجرّون الحيوانات. سافرنا، وطوال الطريق كلّه منعتنا الجنديّات اللواتي كنّ يحرسننا من رفع رؤوسنا، وشتمننا وضربننا على أيدينا وصوّرونا. بعد بعض الوقت توقّفت الحافلة، أنزلننا، وسألن كلّ واحدة عن اسمها وصوّرنها. أمسكتْنا إحدى الجنديّات برؤوسنا أيضًا وأمرتنا بتقبيل العلم الإسرائيليّ. وخبطت جنديّة أخرى رأسي بجانب الحافلة بعنف.

أخذونا إلى سجن الدامون وأدخلوني إلى غرفة التحقيق هناك. كان هناك محقّق قدّم نفسه على أنّه ضابط في "الشاباك" وسألني شتّى أنواع الأسئلة عن زوجي وأولادنا وإخوتي. سألني إن كنت أعرف مكان أنفاق حماس، وعندما أجبته بأنّني لا أعرف، سألني عن سبب اعتقالي. قلتُ له لا أعرف وأن يسأل الجيش عن ذلك. بعد ذلك أخرجوني من هناك وأخذوني إلى العيادة لإجراء فحص، ثمّ أدخلوني سويّةً مع أربع نساء أخريات إلى زنزانة صغيرة مخصّصة ربّما لشخص واحد أو لشخصين.

كان الجو خانقًا جدًّا في الزنزانة وكان من الصعب التحرّك. نمنا على فرشات رفيعة جدًّا وقدّموا لنا بعض الطعام هناك. كنّا جميعًا في حالة نفسيّة صعبة جدًّا. لم أنمْ في الليل وكنتُ أفكّر طوال الوقت في زوجي وأولادي فقط. لم أكن أعرف حتّى إنْ كانوا على قيد الحياة.

بعد نحو 20 يومًا، في 7.2.24، أبلغَنا مدير السجن بأنّه قد تمّ إطلاق سراحنا، ونقلوني بالحافلة سويّةً مع نحو 22 امرأة أخرى و50 رجلًا إلى سجن آخر، ومن هناك سافروا بنا إلى معبر كرم أبو سالم. لم يعيدوا لي أغراضي التي كانت بحوزتي أثناء الاعتقال، ومن ضمنها هاتف محمول، خاتم زواج ونحو 500 شيكل نقدًا. مشينا حتّى معبر رفح (نحو 3 كيلومترات) وكان ينتظرنا هناك موظّفو الأونروا الذين رافقونا في طريق عودتنا إلى داخل القطاع.

منذ ذلك الحين وأنا موجودة مع عدّة نساء أخريات كنّ معتقلات معي في مدرسة في حيّ السعودي في مدينة رفح. لم أتمكّن من الاتّصال بزوجي وأولادي إلّا بعد بضعة أيّام، وعلمتُ أنّهم موجودون، هم أيضًا، في مركز للمُهجَّرين تابع للأونروا في مخيّم الشاطئ شماليّ القطاع. قال زوجي إنّ حياتهم هناك صعبة وإنّهم لا يستطيعون الحصول على طعام أو شراب وإنّه من الصعب الحصول على دقيق. وقال إنّه من غير الممكن الحصول على مياه نظيفة وإنّهم لا يستحمّون إلّا مرّة واحدة كلّ أسبوعين.

لا يوجد طعام ولا شراب كافيان هنا أيضًا. هناك معلّبات من الفطر، لكن ليس لدينا غاز أو أواني طبخ. ما زلتُ أشعر وكأنّني في السجن. هذا الشعور يطاردني في الليل أيضًا. أبكي طوال الوقت، وخاصّة عند الإفطار. هذه هي المرّة الأولى التي أبتعد فيها عن زوجي وأولادي ولا نجتمع فيها مع جميع أفراد العائلة كما هي العادة في شهر رمضان. وقد علمتُ أيضًا أنّ منزلنا تعرّض للقصف ودُمِّر بالكامل.

- سجّل هذه الإفادة باحثا بتسيلم الميدانيّان ألفت الكرد ومحمّد صبّاح في 15.3.24.