شيماء أبو جياب - أبو فول (32 عامًا)، من سكّان مخيّم جباليا للاجئين

  

بتسيلم - 15/4/2024

في بداية الحرب انتقلتُ إلى منزل والديّ في حيّ الصفطاوي في شمال قطاع غزّة، وبعد نحو شهر ونصف الشهر انتقلنا جميعًا إلى شقّة مستأجرة في حيّ الشيخ رضوان. في 3.12.23 كان والدي، خالد أبو جياب (72 عامًا)، جالسًا عند مدخل المنزل، وفجأةً حدث قصف عنيف في المنطقة فأصيب بجروح بالغة. اتّصلتُ بزوجي أحمد أبو فول الذي يعمل مسعفًا، فحضر بسيّارة إسعاف وأخذ والدي إلى مستشفى العودة. أجروا لوالدي عمليّة جراحيّة في المستشفى لكنّ حالته كانت صعبة وتوفّي في اليوم التالي. قمنا بدفنه في ملعب كرة قدم في المنطقة. كان ذلك يومًا قاسيًا جدًّا.

في 12.12.23 علمتُ بأنّ بناية عائلة زوجي قد تعرّضت للقصف، وبأنّ زوجي فقدَ 28 فردًا من عائلته، من بينهم زوجته الأولى إسلام وثلاثة من أولادهما. لم يبقَ سوى عُلا (14 عامًا) التي أصيبت وتمّ إخلاؤها إلى المستشفى المعمداني. ذهبتُ إلى هناك في اليوم التالي لكي أكون معها.

أمرونا برفع قمصاننا وبخفض البناطيل قليلًا، ووقف الجنود أمامنا

أصيبتْ علا في رِجلها اليسرى ورأسها. بقينا في المستشفى نحو 6 ساعات، وبعد ذلك توجّهنا إلى مستشفى الهلال الأحمر في مخيّم جباليا للاجئين. بقينا هناك حتّى اجتاح الجيش الإسرائيليّ المنطقة وحاصر المكان. طوال أربعة أيّام كان الخروج من المستشفى ممنوعًا، وكاد الطعام ينفد.

ثمّ أمر الجيش الجرحى والنساء بإخلاء المستشفى. أخذتُ علا وذهبنا سيرًا على الأقدام. كان معنا أقارب آخرون لأحمد قد أصيبوا. ذهبنا في طريق صعبة، مليئة بالرمال والحجارة، حتّى وصلنا إلى المدرسة. كان الطقس باردًا جدًّا، ولم تكن للمدرسة نوافذ. ولم تكن هناك بطانيّات أو طعام أيضًا. نمنا على الأرضيّة مباشرةً. جلستْ علا طوال الليل على ركبتيّ وكانت ترتجف من البرد.

في اليوم التالي جاء أحمد إلينا وانتقلنا معًا إلى مدرسة أخرى. بقينا هناك حتّى تمكّن أحمد، في بداية شهر شباط، من التنسيق مع الهلال الأحمر بشأن انتقالنا إلى مستشفى الأمل في خان يونس. سافرتُ أنا وعلا وحماتي بسيّارة الإسعاف. كانت السماء تمطر وكان الطقس باردًا جدًّا.

عندما وصلنا إلى حاجز "نتسريم" أوقفنا الجيش. سألونا عن أسمائنا وطلبوا رؤية هويّاتنا وصوَّرونا. بعد ذلك توجّهت سيّارات الإسعاف إلى مستشفى الأمل. في المستشفى تمّ إجراء صور بالأشعّة السينيّة للجرحى. بقيتُ هناك مع علا حتّى اقتحم الجيش المكان بالدبّابات في 9.2.24 واعتقلني الجنود.

في ذلك اليوم حاصرت الدبّابات المستشفى ودعا الجنود المهجّرين إلى إخلائه، وقالوا إنّ البقاء هناك مسموح به للجرحى ولمرافقيهم فقط. أمر الجنود المرافقين بالخروج إلى الممرّ والجرحى بالبقاء في غرفهم. كان هناك نحو 80 امرأة وأكثر من 100 رجل مُعالَج، وكان عددنا سويّةً مع المرافقين نحو 300 شخص في المجمل.

أمر الجنود الرجال بخلع ثيابهم وبالبقاء بملابسهم الداخليّة وقاموا بتفتيشهم. وطلبوا من إحدى الممرّضات في المستشفى تفتيش النساء. أمرونا برفع قمصاننا وبخفض البناطيل قليلًا، ووقف الجنود أمامنا.

بعد اجتيازي التفتيش الجسديّ، ذهبتُ إلى الغرفة التي كانت فيها أخت أحمد، خديجة (38 عامًا) وأولادها إبراهيم (16 عامًا) وعهد (12 عامًا) ومحمّد (11 عامًا). كانوا مُهجَّرين، وليس جرحى.

اعتقلوني سويّةً مع 15 شابًّا. سجّل الضابط أرقامًا على أيدينا، وقال: "كلّكم إلى إسرائيل"

حضر ضابط وسأل بالعربيّة "أين شيماء أبو جياب؟"، وعندما أجبتُه، سألني ماذا أعمل. أجبتُه بأنّني متطوّعة في الهلال الأحمر، ثمّ غادر. بعد نحو 10 دقائق عاد الضابط وأمرني بالوقوف خلف مجموعة من الشباب، ثمّ قام بتقييد يدَيّ بأصفاد بلاستيكيّة وقال لي "أنزلي عينيك إلى الأسفل".

اعتقلوني سويّةً مع 15 شابًّا. سجّل الضابط أرقامًا على أيدينا، وقال: "كلّكم إلى إسرائيل".

كان ذلك في الليل. أصعدونا إلى ناقلة جند مدرَّعة. قيَّدوا أرجلنا بالأصفاد أيضًا، لكنّهم لم يغطّوا أعيننا. شعرتُ بألم شديد بسبب الأصفاد. أحضرونا إلى مبنى كان فيه جنود. أعتقد أنّ ذلك كان لا يزال في خان يونس. غطّوا عينيّ بقطعة قماش وسمعتُهم يأمرون الشباب بخلع ثيابهم. بعد ذلك ضربوني ببندقيّة على رقبتي ورأسي، وضربوا الشباب أيضًا – سمعتُهم يصرخون من الألم. كان الجنود يشتموننا.

وصلت ناقلة جند مدرَّعة، أصعدونا إليها وأخذونا إلى مكان آخر، ليس بعيدًا عن المكان الذي كنّا فيه. جميع الذين صعدوا إلى ناقلة الجند المدرّعة تعرّضوا للضرب. قادني أحد الجنود إلى ناقلة الجند المدرَّعة وهو يصوِّب سلاحه إلى مؤخّرتي. كنتُ معصوبة العينين ومقيّدة اليدين بالأصفاد خلف ظهري ولم أتمكّن من الصعود إلى ناقلة الجند المدرَّعة بمفردي، ولذلك حملني أحد الجنود وألقى بي داخلها. لم أرَ من تحت عصابة العينين سوى أرجل حولي. صرختُ عليهم ألّا يدوسوا عليّ بالخطأ، لكن كان هناك ضجيج شديد صادر عن ناقلة الجند المدرَّعة. أجلسني أحدهم، أعتقد أنّه كان جنديًّا. طوال وقت السفر كان الجنود يشتموننا.

وصلنا إلى مكان لا أعرف اسمه. كانت الأرضيّة مبلّطة. أجلسونا في الخارج وكان الطقس باردًا. بعد ذلك أخذونا من هناك إلى مكان آخر، أعتقد أنّه كان في داخل إسرائيل. أنزلونا من ناقلة الجند المدرَّعة وأدخلونا إلى خيمة. كانت الأرض رمليّة. رأيتُ من تحت العصابة أنّهم قاموا بتفتيش الشباب، ثمّ أحضروا جنديَّتين قامتا بتفتيشي يدويًّا، دون أن أخلع ملابسي.

بعد ذلك أصعدونا إلى حافلة وأخذونا إلى مكان آخر. عندما نزلنا من الحافلة عاملتني جنديّة بقسوة، صرختْ عليّ وأنزلتني بعنف. أجلستني على الأرض وحَنتْ رأسي حتّى يلامس الأرض، قرب قدَمَيها. تركتني على هذه الحال لمدّة عشر دقائق تقريبًا، ثمّ أمسكت بي وثبَّتتني بحيث لم أعد قادرة على التحرّك. شعرتُ وكأنّني أصبحتُ مشلولة. بكيتُ من شدّة الألم. شعرتُ بانقباض. أزالت الأصفاد عن يدَيَّ ورِجليَّ وأبقت العصابة على عينيَّ. بعد ذلك أمرتني بخلع ثيابي كلّها، وقالت لي إنّه لا داعي للخوف لأنّه لا يوجد رجال هناك على الإطلاق. لا أعرف إن كان ذلك صحيحًا أم لا.

أعطوني "ترينينغ" لأرتديه وأخذوني إلى العيادة. سألوني عن وضعي الصحّيّ. قلتُ لهم إنّني أعاني من التهاب المفاصل في رِجلَيّ وفي مفاصل الحوض.

شعرتُ حقًّا بأنّني سأصاب بالجنون

أدخلوني إلى مركبة أخرى ونقلوني إلى السجن. بعد ذلك اتّضح لي أنّه "عنَتوت". قامت جنديّات بتفتيشي مرّة أخرى ثمّ أخذوني إلى بركس كبير. عصبوا عينيّ وقيّدوا يدَيَّ ورِجليَّ بالأصفاد. جلسنا في بركس مفتوح محاط بسياج من الأسلاك. كان هناك لوح خشبيّ عليه فرشة فجلست عليه. عندما نزعوا العصابة عن عينيَّ رأيتُ شبابًا من غزّة بجانبي في البركس. بعد نحو أسبوع فقط أزالوا الأصفاد عن يديَّ ورِجليَّ.

كانت المراحيض مقرفة، لا ماء ولا موادّ تنظيف. كنتُ أعاني من آلام في رقبتي بسبب الضرب، وكان الطقس باردًا جدًّا. بين الحين والآخر كنتُ أتخيَّل أنّ أمّي بجانبي وأنّي أتحدّث معها. شعرتُ كأنّني طفلة صغيرة تطلب من أمّها أن تدفئها. كانت الجنديّات يصرخن عليّ: "اخرسي، يا بنت الشرموطة". كان الجنود والجنديّات يبصقون علينا، وإذا قالوا لنا صباح الخير، فذلك يكون مع شتيمة: "صباح الخير يا قحبة" أو "يا شرموطة" أو "يا بنت الشرموطة".

كنتُ بالكاد قادرة على الوقوف، لكنّهم أجبرونا على الوقوف بجانب سياج الأسلاك الشائكة كلّ يوم. كانت رقبتي تؤلمني وحاولتُ طوال الوقت أن أسندها. لم يعطوني أيّ مسكّن للألم. كانوا يمرّرون لنا الطعام عبر سياج الأسلاك الشائكة، لكنّني بالكاد كنتُ قادرة على تناول الطعام.

لم يسمحوا لي بالنوم أيضًا، ثلاث ساعات فقط في الليلة. في الأيّام الثلاثة الأخيرة لم يسمحوا لي بالنوم ليلًا أو نهارًا. كان الجنود يغنّون بالعربيّة ويشغّلون أغاني عربيّة، حتّى لا أستطيع النوم. لذلك شعرتُ حقًّا بأنّني سأصاب بالجنون. أحضروا فتاة من خان يونس اسمها نِرمين وأجلسوها معي، لكنّهم منعونا من التحدّث الواحدة مع الأخرى. لأنّني كنتُ بالكاد قادرة على تناول الطعام، قالوا لنِرمين أن تطعمني. بعد ثلاثة أيّام أخذوا نِرمين إلى التحقيق، ولم يُعيدوها إلى المكان الذي كنتُ فيه.

في أحد الأيّام أخذوني إلى التحقيق. سألني الضابط عن اسمي وماذا أعمل وأين تمّ اعتقالي. سألني عمّا أعرفه عن الأنفاق، وإذا كان لديّ أقارب ينتمون إلى حماس أو الجهاد الإسلاميّ، وإذا كنتُ أعرف مكان وجود المختطفين الإسرائيليّين.

بعد ذلك نقلوني إلى سجن الدامون واحتجزوني هناك لمدّة 41 يومًا، في الجناح رقم 3. كانت هناك أسيرات من الضفّة الغربيّة أيضًا. كانت الغرفة قذرة. قضيتُ أيّامًا قاسية جدًّا هناك. جسمي كلّه كان يؤلمني، لا سيّما رقبتي. سمحوا لي بأن أستحمّ فوضعتُ ماء ساخنًا على رقبتي، وساعدني ذلك.

بعد ذلك نقلوني إلى الغرفة 9 في الجناح رقم 4. كانت الغرفة باردة وكانت هناك رطوبة. كان العلاج الوحيد الذي تلقّيناه هو الأكامول، وهذا أيضًا تلقّيناه بصعوبة. كان الطعام سيّئًا للغاية وعندما طلبنا شيئًا آخر رفض السجّانون ذلك وقالوا لنا: هذا هو الموجود. في رمضان كان الطعام أسوأ من ذلك أيضًا. أحضروا لنا طعامًا بائتًا أو طعامًا فاسدًا، مُربّى فاسدًا، معكرونة فيها حشرات. كان الهدف من ذلك إذلالنا.

خلعتُ كلّ شيء باستثناء لباسي الداخليّ، لأنّه كانت لديّ الدورة الشهريّة. قالوا لي: "قفي ووجهك إلى الحائط". جاءت جنديّة وتحسّستْ لباسي الداخليّ، للتأكّد من أنّني لم أخبِّئ شيئًا

لم يسمحوا لنا بالاتّصال بمحامٍ أو بالصليب الأحمر.

في اليوم الـ 48 من اعتقالي أبلغوني بأنّه سيتمّ إطلاق سراحي، لكنّني لم أصدّقهم. قيّدوا يديَّ ورِجليَّ وعصبوا عينيَّ ووضعوني في داخل قفص، ثمّ نزعوا العصابة عن عينيَّ.

بعد ذلك أخرجوني من القفص وعصبوا عينيَّ مرّة أخرى. أدخلوني إلى سيّارة جيب وأخذوني إلى سجن "عنَتوت" مرّة أخرى. اعتقدتُ بأنّهم سيُطلقون سراحي حقًّا، وفجأةً وجدتُ نفسي في هذا السجن مرّة أخرى. أخذوا تفاصيلي مرّة أخرى واقتادوني إلى تحقيق مشابه للتحقيق السابق. الأسئلة ذاتها. قال لي المحقّق: "وقِّعي". قلتُ له: "لا أريد أن أوقِّع على أشياء مكتوبة بالعبريّة". فقال لي: "وقِّعي، لصالحك". فوقَّعتُ.

بعد ذلك أخذوني إلى غرفة، نزعوا الأصفاد عنّي وأمروني بخلع ملابسي. خلعتُ كلّ شيء باستثناء لباسي الداخليّ، لأنّه كانت لديّ الدورة الشهريّة. قالوا لي: "قفي ووجهك إلى الحائط". جاءت جنديّة وتحسّستْ لباسي الداخليّ، للتأكّد من أنّني لم أخبِّئ شيئًا. بعد ذلك قالوا لي: "ارتدي ملابسك". نزعوا عنّي الفوطة ورموها.

لم أعد أتحمّل ظروف السجن، التعذيب، الوقوف لمدّة ساعة، اللوح الخشبيّ الذي جلستُ عليه، الملابس المتّسخة، والحمّام القذر. حضر ضابط، فقلتُ له إنّه من المفترض أن يتمّ إطلاق سراحي ولا أفهم سبب وجودي هنا. حقَّق معي مرّة أخرى وسألني عمّا حدث في 7.10 وإن كنتُ أعرف أشخاصًا دخلوا إلى غلاف غزّة. قال إنّ حماس اغتصب النساء وسألني إذا كان ذلك مقبولًا عليّ. قلتُ له إنّ ديننا يُحرِّم الاغتصاب. وقلتُ له إنّني تعرّضتُ للتعذيب، وإنّ الجنود يعاملونني معاملة سيّئة، وإنّهم يجلسونني على لوح خشبيّ في الشمس طوال اليوم. قلتُ له: "إذا كنتُ لا تريد إطلاق سراحي، فأعدْني إلى سجن الدامون".

بقيتُ رهن الاعتقال 56 يومًا. كنتُ في حالة نفسيّة يُرثى لها. لم أستطع أن أحتمل أكثر. دعوتُ الله أن يخلّصني من هذا العذاب. اشتقتُ لأمّي. اشتقتُ لزوجي. خفتُ أن أفقد أمّي وعائلتي. راودتني أفكار سيّئة – ماذا لو عدتُ إلى غزّة ووجدتُهم مقتولين؟

في 4.4.24 حضر جنديّ وأمرني بمدّ يدَيَّ. قيَّد يدَيَّ ورِجليَّ وعصب عينَيَّ. سألني عن هويّتي ثمّ اقتادوني إلى الحافلة. سمعتُ شبابًا في الحافلة يقولون "إفراج". سافرت الحافلة وفي النهاية أنزلونا قرب معبر "كرم أبو سالم". عندما نزلنا من الحافلة أخذنا نركض. كانت هناك حافلات أخرى أيضًا. جميعُهم كانوا شبابًا وكنتُ أنا المرأة الوحيدة.

عند الحاجز التقيتُ بشخص يعرف زوجي. اتّصل به وأعطاني أن أتحدّث معه. عندما سمعتُ صوت أحمد انهرتُ. بعد ذلك أعطاني أن أتحدّث مع أمّي، فانفجرتُ بالبكاء. شكرتُ الله على أنّه أطلِق سراحي بعد كلّ المعاناة التي مررتُ بها. جاء أخي رائد. أخذني من الحاجز ونقلني إلى رفح. فقد انتقل للسكن هناك.

-  سَجّلت هذه الإفادة، هاتفيًّا، باحثة بتسيلم الميدانيّة ألفت الكرد في 15.4.24