عبد القادر طافش (32 عاماً)، أب لاثنين، من سكّان مخيّم جباليا للّاجئين

  

بتسيلم - 7/2/2024

حتى بداية الحرب في 7 تشرين الأول كنت أقيم في مخيّم جباليا للّاجئين في شمال قطاع غزّة مع زوجتي إسلام (37 عاماً) وولدينا ريفان (10 سنوات) وجمال (8 سنوات). في شهر حزيران من هذه السّنة تعرّضت لحادث طرق عندما كنت أقود درّاجتي الهوائيّة وكُسِرت ثلاثة أضلع في صدري فتمّ تثبيت الجزء العلويّ من جسمي بواسطة البلاتين. كذلك أصبتُ بكُسور في الجُمجُمة.

منذ اليوم الأوّل من الحرب بدأ القصف وإطلاق الصواريخ في منطقتنا فقرّرنا أن تنتقل زوجتي مع الأولاد إلى منزل والديها في حيّ الزيتون في مدينة غزّة، فيما انتقلت أنا إلى منزل والديّ مع إخوتي وأخواتي وأولادهم. كان عددنا هناك 18 نفراً.

غرسة البلاتين التي خرجت من مكانها في صدر عبد القادر طافش. تصوير: ألفت الكرد، بتسيلم، 7.2.24.

بعد مضيّ نحو شهر، في بداية تشرين الثاني، تضرّر منزل والديّ جرّاء القصف واندلع فيه حريق. أخذنا والدتي وأخواتي إلى منزل الجيران، بينما أخذنا والدي، الذي يعاني من مرض الربو، إلى مستشفى كمال عدوان حيث تلقّى هناك الأكسجين ثمّ تم تسريحه. أطفأنا النيران بمساعدة الجيران، وفي اليوم التالي نظّفنا المنزل قدر الإمكان ثمّ عُدنا إلى الإقامة فيه. لكنّ المنزل قُصف في مساء اليوم نفسه مع عدد من المنازل الأخرى في المنطقة. انتقلنا إلى منزل الجيران، مرة أخرى، لكن قصف المنطقة استمرّ فلجأنا في اليوم نفسه إلى مستشفى كمال عدوان.

بقينا هناك مدّة شهر كنا خلالها محاصَرين بالموت والمعاناة. كانت الجثث ملقاة بجانبنا وأعداد كبيرة من المصابين بجروح بالغة يُجلبون إلى المستشفى كل الوقت. في فترة الهُدنة عدت لأرى ماذا حصل لمنزلنا ومنزل والديّ فرأيت دماراً كاملاً - لا بقيت شوارع ولا منازل. عدت إلى المستشفى وحدّثت والديّ بما شاهدته. طوال تلك المدة، لم أكد أسمع شيئاً تقريباً من زوجتي وأولادي، لأن الاتصالات لم تكن متوفرة باستمرار.

وقفنا هناك في الساحة 500 - 600 رَجُل، كلّنا عُراة ليس علينا سوى سراويلنا الداخليّة. كان المستشفى محاطاً بدبّابات وجنود وكان يُرافقهم طاقم مصوّرين

عندما انتهت الهُدنة تدهور الوضع أكثر. أصبح الخروج من المستشفى مستحيلاً والمناظر في الدّاخل كانت مروّعة. جرحى وأشلاء جثث مُقطّعة. حفرنا آباراً داخل حرم المستشفى ودفنّا فيها القتلى. حين كنّا هناك أصابت قذيفة مدفعيّة المستشفى وقتلت عدداً من الأشخاص، بمن فيهم نساء وأطفال.

في صباح أحد الأيّام، أظنّه كان يوم 11.12.23، سمعت دويّ انفجارات قويّة في المنطقة وجنوداً يقتحمون المستشفى؛ عبر مكبّرات الصّوت، كانوا يأمرون الفتيان والرّجال من سن 15 إلى 70 عاماً أن يخرج كلّ منهم حاملاً بطاقة هويّته ورافعاً يديه إلى أعلى مع البطاقة.

خرجنا إلى ساحة المستشفى وأيدينا مرفوعة إلى أعلى. أمرونا بأن نخلع ملابسنا ووقفنا هناك في الساحة 500 - 600 رَجُل، كلّنا عُراة ليس علينا سوى سراويلنا الداخليّة. كان المستشفى محاطاً بدبّابات وجنود وكان يُرافقهم طاقم مصوّرين. في الخارج كان قصف كثيف ومواجهات وإطلاق قذائف. ساقونا إلى الخارج وكبّلوا أيدينا بأصفاد بلاستيكيّة وأبقونا في الشارع على هذا الحال مدّة ثلاث ساعات تقريباً. بعد ذلك اقتادونا سيراً على الأقدام نحو 500 متر وُصولاً إلى منزل حوّلوه إلى معسكر للجيش. كانت هناك دبّابات وجنود.

أخذ الجنود ينادون في كلّ مرّة خمسة رجال ليتقدّموا سويّة. عندما تقدّمت مع آخرين أمرني الجنديّ بأن أخطو خطوتين إلى الخلف وأركع على ركبتيّ وأطأطئ رأسي. بعد ذلك ألصقوا لاصقة صفراء على كتفي الأيمن ثمّ انهال عليّ أربعة جنود بالضرب المُبرح. كانوا يركلونني وأحدهم ضربني على رأسي ودفعني فأوقعني على الرّمل. بعد ذلك أخذوني إلى منطقة أخرى تبعد نحو 300 متر كان فيها 10 أشخاص آخرون وجنود ينهالون عليهم ضرباً بلا هوادة.

أمروني بأن أطأطئ رأسي وعصبوا عينيّ ثمّ أطلقوا رصاصتين بجانبي وفي أثناء ذلك سألني أحد الجنود: "هل تريد أن تموت؟". كان البرد شديداً ونحن لا نزال عُراة . أخذت تنتابني تشنّجات في كلّ أنحاء جسمي. سمعت كيف يعذّب الجنود شبّاناً في منطقة الدّبابات. كان الشبّان يصرخون من الألم وسمعت جنديّاً يقول بالعربيّة: "أنزِل رأسك وزُجّه في مؤخّرة الذي أمامك".

كان هناك ضابط كتب على يدي وجبيني الرّقم 81، ثمّ أدخلوا رأسي في كيس. في تلك اللّحظة ظننتُ أنّهم سيُعدمونني

في لحظة ما، داس أحد الجنود على عُنقي فشعرت بالاختناق. قلت له: "لديّ بلاتين في العُنق" فاندفع يضربني على كتفي حتى انكسرت قطعة البلاتين. أثناء الضرب سقطت العصبة عن عينيّ. كان رأسي مليئاً بالرّمل. قلت للجنديّ: "أريد طبيباً"، فأجابني: "تريد منّي طبيباً يا ابن الزّانية؟!"، وراح يشتمني ويجرّني على الأرض ويواصل ضربي وركلي في كلّ أنحاء جسمي. ضربني على أنفي فصار دمي ينزف دماً. عندئذٍ سكب ماءً على وجهي وأعاد تثبيت العصبة على عينيّ. بعد ذلك ألقوني في زاوية مُجانبة وهناك أيضاً انهال عليّ بالضرب عدد كبير من الجنود. قطع أحد الجنود القيود البلاستيكية عن يديّ وأعاد تكبيلهما إلى الخلف. برزت قطعة البلاتين في الجزء العلوي من الصدر. ضربوني على عُنقي وصفعوني وركلوني في كلّ أنحاء جسمي. صرت أتوسّل إلى الله وأتمنى أن يُميتني. قال لي أحد الجنود: "أنت حماس". قلت له إنّني مجرّد مواطن نازح هُدم بيته. سألني ما اسمي وقبل أن أجيبه عاجلني جنديّ آخر بضربة على رأسي.

كان هناك ضابط كتب على يدي وجبيني الرّقم 81، ثمّ أدخلوا رأسي في كيس. في تلك اللّحظة ظننتُ أنّهم سيُعدمونني. اقتادوني مسافة 300 متر تقريباً وهُم يضربونني ثمّ ألقوني داخل شاحنة مع شبّان آخرين. في داخل الشاحنة كنّا مكوّمين فوق بعضنا البعض، وقام أحد الجنود بتقييد رجليّ. كان اللّيل قد حلّ وكان البرد شديداً والطقس ماطراً.

توقّفت الشاحنة في مكان أظنّه حاجز "إيرز". نظرت من تحت عصبة العينين ورأيت هناك عدداً كبيراً من الجنود. جاء جنديّ وبال علينا جميعاً. أنزلونا من الشاحنة وكنت أرتجف من شدّة البرد. وأثناء ذلك انهالوا علينا ضرباً بالعصيّ. بعد ذلك أوقفونا في طابور طويل تحت المطر. كنّا نبكي ونتوسّل إلى الله أن يخلّصنا.

شعرت بأن جسمي متجمّد تماماً. أبقونا واقفين هكذا في الطابور مدّة ثلاث ساعات تقريباً، والجنود يواصلون ضربنا. يعجز لساني عن وصف فظاعة ذلك العذاب. بعد ذلك أدخلونا إلى حاجز "إيرز" ووزّعونا على غرف صغيرة - عشرون شخصاً في كلّ غرفة، والغرفة مساحتها نحو 2 متر مربّع. في داخل الغرفة أمرونا بأن نخلع سراويلنا الدّاخليّة، وفي تلك اللّحظة ركلني أحد الجنود في بطني. ألبسونا عباءات شفّافة.

رُحت أصرخ: "بلاتين، بلاتين"، على أمل أن يشفقوا عليّ ويتوقّفوا عن ضربي. ثمّ فجأة سمعت صوت أبي، ولم أكُن أعرف أنّه موجود إلى جانبي. لقد عرفني من صوتي وناداني باسمي، ولكن قبل أن أجيبه انقضّ عليه الجنود وأبرحوه ضرباً. كذلك شدّوا القيود على يديه بشكل مؤلم فأخذ يصرخ "آخ يدي، يدي!".

انتباني النعاس ولكن كلّما أخفضت رأسي انهال عليّ الجنود ضرباً مُبرحاً. صرخت من الألم. اشتدّ البرد كثيراً، ويبدو أنّ الجنود قد شغّلوا التبريد. عمليّاً، فقدت الإحساس بإحدى رجليّ ولم أستطع تحريكها.

بعد ذلك أخرجونا ثمّ أدخلونا إلى حافلة. أمرونا بأن نردّد بالعبريّة "تحيا إسرائيل، شعب إسرائيل حيّ" و"مَن الحمار؟ إنّه السّنوار". سارت بنا الحافلة مسافة طويلة وكنّا طوال الطريق نطأطئ رؤوسنا والجنود يشتموننا. قالوا: "أبناء زانيات"، "فطايس"، وسبّوا الله والإسلام. خفت ألا أعود بتاتاً إلى قطاع غزّة. بعد مضيّ ساعتين أو ثلاث توقّفت الحافلة وأنزلونا منها. أجلسوني في ساحة فوق الحصى.

من حين إلى آخر كانوا يعلّقونني من إحدى يديّ ويُبقونني هكذا 3-4 ساعات، إلى أن يُغمى عليّ

اقتربت منّي جنديّة، ضربتني على مؤخّرة رأسي وقالت: "اسكت!". بعد ذلك أدخلني الجنود إلى غرفة وأزالوا العصبة عن عينيّ. وقفت أمام كاميرا وشاهدت في هاتف أحد الجنود صورة بطاقة هُويّتي. سألني عن اسمي وعن زوجتي ووالديّ. وسأل أيضاً ما إن كنت أعاني من أيّ مرض. أجبته بأنّني أعاني من الميغرينا (الصّداع النصفيّ) وشرحت له عن حالتي الصحّية، ووصفت له كيف عذّبني الجنود. في النهاية كتب شيئاً ما على ورقة وناولني حبّة دواء مسكّن للأوجاع. بعد أن ابتلعت الحبّة كبّل الجنديّ نفسه يديّ ثانية وعصب عينيّ، ثمّ ناولوني سروالاً داخليّاً وبيجاما رماديّة ارتديتهما بعد أن خلعت العباءة التي ألبسونا إيّاها سابقاً. بعد ذلك ضربوني وأجبروني أن أردّد "تحيا إسرائيل".

تبيّن أنّنا موجودون في معسكر اعتقال عسكريّ. لا أعرف ما اسمه. لم تكن لنا هناك أيّة حقوق - لم نقابل محامياً ولا مندوباً عن الصّليب الأحمر. كانت يداي مكبّلتين بقيود حديديّة ليلاً ونهاراً، وأحياناً كانوا يضعون القيود في رجليّ أيضاً. من حين إلى آخر كانوا يعلّقونني من إحدى يديّ ويُبقونني هكذا 3-4 ساعات، إلى أن يُغمى عليّ. لم أقدر على تحريك يدي الثانية، ربّما لأنّ كتفي كُسرت من كثرة الضرب عندما خرجت قطعة البلاتين. سمعت أصواتاً غريبة، صراخاً ونباح كلاب. أخذوني نحو 5-6 مرّات إلى غرفة التحقيق حيث كانوا يسألونني عن أصدقائي وجيراني وإن كنت قد اجتزت تدريبات عسكريّة. للأكل، أعطونا فقط كسرات خبز وخيارة وقطعة صغيرة من الجبن وأحياناً قليلاً من التونة ومياهاً للشرب.

احتجزوني هناك أربعين يوماً. أربعون يوماً من الضرب والشتم والتركيع على الركبتين والتعليق من اليدين. كان البرد شديداً ولم تكن هناك بطّانيّات. سمحوا لنا أن ننام فقط من منتصف اللّيل حتى الرّابعة فجراً. لم أعرف ماذا حدث لوالدي إلى أن جلبوا معتقلاً إلى الزنزانة التي كنت فيها فأخبرني بأنّ وضع والدي الصحّي صعب جدّاً.

أخذوني إلى المستشفى مرّتين. أذكر أنّهم أخذوني في المرّة الأولى مقيّد اليدين، ولم أكن أعلم أصلاً إلى أين يأخذونني. في المستشفى أجروا لي تصويراً مقطعياً محوسباً (سي. تي. CT) وقالوا لي: "أنت بحاجة إلى عمليّة جراحية في الكتف لكنك ستخضع للعمليّة في غزّة". في المرّة الثانية أخذوني إلى المستشفى بعد أن أغمي عليّ.

أربعون يوماً من الضرب والشتم والتركيع على الركبتين والتعليق من اليدين

ذات يوم أوقفونا في طابور ونادونا بأسمائنا ثمّ أدخلونا إلى حافلة. نقلونا إلى سجن آخر، وفيه أيضاً لاقينا معاملة مُهينة ومُقرفة. احتجزوني هناك حتى فجر يوم الجمعة الموافق 26.1.24، حيث نادونا بأسمائنا وعندما نادوا باسمي نهضت فأعادوا لي بطاقة هُويّتي وأدخلوني مع شبّان آخرين إلى حافلة. سارت بنا الحافلة مدّة 3-4 ساعات وكانوا طوال الطريق يأمروننا بأن نطأطئ رؤوسنا. عندما توقّفت الحافلة أمرنا أحد الجنود بأن نرفع رؤوسنا ونبتسم. صوّرونا ثمّ أمرونا بأن ننزل من الحافلة. حين نزلنا قطعوا القيود البلاستيكيّة وأزالوا العصبة. بالكاد تمكّنت من إبصار أيّ شيء. اقتادونا سيراً على الأقدام مسافة كيلومتر واحد تقريباً. لا أفهم كيف تمكّنت من المشي أصلاً.

وجدنا أنفسنا في معبر كرم أبو سالم. لحظة وصولنا إلى هناك سقطتُ أرضاً فحملني بعض الشبّان وأدخلوني إلى حافلة وكالة الغوث. عندما وصلنا إلى الجهة الأخرى مدّدوني على سرير واستدعوا سيّارة إسعاف من الصّليب الأحمر فأتت وأخلتني إلى مستشفى أبو يوسف النجّار. كانت حالتي صعبة – كنت أفقد وعيي المرّة تلو الأخرى وكان جسمي واهناً جدّاً ولم أكن قادراً على الحركة. عالجوني طيلة 4 ساعات حيث أعطوني أدوية مسكّنة للألم وسوائل وأجروا لي صور CT، كما ضمّدوا رجليّ بمشدّات، ثمّ سرّحوني في اليوم نفسه.

أمكث الآن لدى أقارب لنا في رفح. تبيّن لي أنّه قد أُطلِق سراح والدي قبلي. التقيته في رفح. بدا منهكاً للغاية وقد أحسست أنّ روحه كسيرة. احتضنته. لقد وجد ملجأ في مدرسة لكن وضعي أسوأ من وضعه ولا أستطيع العيش في الظروف السائدة هناك، مع الاكتظاظ وصعوبة الوصول إلى المراحيض.

زوجتي والأولاد موجودون في دير البلح. منذ إطلاق سراحي التقيتهم مرّة واحدة فقط.

حالتي سيّئة حقّاً. ينبغي أن أخضع لعمليّة جراحيّة في الخارج. لديّ رجفة في جسمي كلّه، عضلاتي ارتخت من كثرة الضرب الذي تلقّيته في المعتقل. أمشي فقط بالاستعانة بعكّازات، وهذا بصعوبة أيضاً. أعاني آلاماً كثيرة ولا يتوفّر لديّ ما يكفي من المسكّنات. في اللّيالي يصعب عليّ النوم بسبب الأوجاع والبرد ومرارة الأفكار. لا يوجد هنا من يعتني بي، ولا ملابس لديّ. أنا محطّم نفسيّاً وأحتاج إلى إعادة تأهيل جسديّ ونفسيّ.

أمنيتي الأكبر الآن هي أن أستطيع النوم في الليل.

- سجّلت هذه الإفادة باحثة بتسيلم الميدانيّة ألفت الكُرد في 7.2.24