رامي أبو راس (36 عامًا)، أب لستّة، من سكّان حيّ الزيتون في مدينة غزّة

  

بتسيلم - 26/3/2024

حتّى اندلاع الحرب كنتُ أسكن مع زوجتي إيمان (30 عامًا) وأطفالنا الستّة، أبناء 5 حتّى 13 عامًا، في حيّ الزيتون في مدينة غزّة، وكنتُ أعمل في محلّ "طافش لبيع المجمّدات". لكنّني توقّفتُ عن العمل خلال أسبوع لأنّه لم تكن هناك تيار كهرباء منتظم ولم تكن هناك دجاج ولحوم.

بقينا في المنزل وسمعنا أصوات القصف طوال الوقت. كنتُ أخرج للتسوّق العاجل فقط. حاولنا طوال الوقت تهدئة الأطفال، رغم أنّ ضجيج عمليّات القصف كان يرعبنا نحن أيضًا. سمعنا في الأخبار ومن الجيران عن وجود الكثير من القتلى والجرحى.

بعد مرور أسبوعين نزحتْ حشود من السكّان عن منطقتنا، لأنّهم خافوا أن يُصابوا بأذى من جرّاء القصف المدفعيّ الذي لم يتوقّف لحظة واحدة. انتقل قسم منهم إلى جنوب القطاع، والقسم الآخر إلى غرب مدينة غزّة. غادرتُ أنا وعائلتي المنزل أيضًا. استأجرنا مخزنًا غرب مدينة غزّة وسكنّا فيه حتّى تمّ إعلان وقف إطلاق النار، ثمّ عدنا إلى بيتنا.

بعد يومين من انتهاء وقف إطلاق النار داهم الجيش الإسرائيليّ حيّ الزيتون. بدأت عمليّات القصف ولم تتوقّف. حلّقت الطائرات في الهواء وأطلقت النار على كلّ شيء يتحرّك في الشوارع. سقط قتلى كثيرون، من بينهم أشخاص أعرفهم ولم نتمكّن من انتشالهم من تحت الأنقاض.

كان الوضع خطيرًا جدًّا. استمرّ حصار المنطقة. انتقلنا إلى منزل عمّي الذي يقع خلف منازل أخرى وليس على الشارع الرئيسيّ. باستثنائنا نحن، كان في هذه الشقّة 17 شخصًا آخر من أقربائي وأنسبائي.

قام أحد الجنود بقطع كابلات الإنترنت واستخدموها لربط أيدينا خلف ظهورنا

بعد ذلك، في يوم الخميس، 7.12.23، قرابة الساعة 6:00 صباحًا، سمعتُ أقاربي يتحدّثون مع شخص ما بالإنجليزيّة، ثمّ رأيتُ دبّابة تتقدّم نحو بنايتنا. أعطيتُ ابنتي هبة راية بيضاء لكي يراها الجنود ويكفّوا عن التقدّم إلينا. توقّف الجنود وأمرونا بالخروج من المنزل واحدًا تلو الآخر. وخرجتُ أنا أخيرًا.

احتضنتُ أطفالي ووقفنا قرب المنزل. رأيتُ الكثير من الجنود حولنا، ورأيتُ بعض القنّاصة على أسطح المباني. كان منظرهم مخيفًا جدًّا، خصوصًا للأطفال. كنّا محاصَرين بالدبّابات والجنود المسلّحين، وخاف الأطفال كثيرًا وتشبّثوا بي. رأيتُ حولي دمارًا كبيرًا في الحيّ لم أره من قبل.

بعد ذلك أمرنا ضابط بالوقوف على أحد جانبي الحائط، وأمر النساء والأطفال بالوقوف على الجانب الآخر، وبرفع أيدينا إلى الأعلى. ثمّ بدأوا باستدعائنا واحدًا واحدًا. قام أحد الجنود بقطع كابلات الإنترنت واستخدموها لربط أيدينا خلف ظهورنا.

عصب الجنود أعين الرجال والفتيان واقتادونا إلى مكان آخر، احتجزونا فيه خمسة أيّام، دون طعام أو ماء تقريبًا، وبأيدٍ مقيّدة وأعين معصوبة طوال الوقت. بالإضافة إلى ذلك، تعرّضنا للإذلال والضرب والركل.

لم يقدّموا لنا سوى القليل من الخبز لنأكله والقليل جدًّا من الماء للشرب. في أحد الأيّام أمر جنديّ ابن أختي محمود (15 عامًا) بأن يوزّع الطعام علينا: كسرة خبز لكلّ شخص وقطرة ماء من غطاء قنّينة... كانت تؤلمني يداي بسبب تقييدهما وركبتاي بسبب الركوع الطويل.

بعد ذلك نقلوني أنا و60-70 معتقلًا آخر إلى نقطة عسكريّة أخرى. ومن هناك أصعدونا إلى حافلة نقلتنا إلى معسكر للجيش، وهناك أنزلونا في ساحة مفتوحة أرضيّتها من الحصى. كان الطقس باردًا جدًّا وعاصفًا. في هذا المكان تمّ إدخالنا إلى غرفة التحقيق، الواحد تلو الآخر. أثناء التحقيق اتّهمني المحقّق بأنّني أنتمي إلى حماس، فأجبتُه بأنّه لا علاقة لي بحماس وبأنّني أبيع الدواجن واللحوم.

بعد ذلك أخذوني إلى طبيب قام بفحصي. وذكر أنّ الجروح التي على معصميّ ناجمة عن تقييدي بكابلات الإنترنت. عندما خرجنا من غرفة الطبيب قيّدوا أيدينا إلى الأمام بقيود بلاستيكيّة، وأخذونا إلى بركس كبير. كان المساء قد حلّ، فأحضروا لنا قطعة خبز، تفّاحة، جبنًا وماء. بقيت هناك ثلاثة أيام وفي كل يوم، من الصباح إلى المساء، كنّا راكعين على رُكبِنا. صرخوا علينا وشتمونا طوال الوقت، مثل "ابن عاهرة"، "شراميط".

بعد ثلاثة أيّام ثمّ اقتادوني إلى غرفة التحقيق. سألني المحقّق عن اسمي وعمري وعملي ولماذا بقينا في المنزل ولم نغادر. أجبتُه بأنّه ليس لديّ مكان أذهب إليه وبأنّ هناك سكّانًا آخرين بقوا فبقينا نحن أيضًا. بعد التحقيق اقتادوني إلى بركس كان فيه 12 معتقلًا آخر. نادوا علينا واحدًا واحدًا لكي نستحمّ.

ربطوا يدَيّ ورِجليّ إلى السياج بينما كانت يداي ممدودتين إلى أعلى وأبقوني هكذا في "شبح" لأكثر من 5 ساعات. خلال أقلّ من ساعة شعرتُ بآلام في جميع أنحاء جسمي

من هناك أخذونا إلى حافلة نقلتنا إلى مكان آخر، أنزلونا فيه وأدخلونا إلى بركس. كان الطقس باردًا، وطلبوا منّا مرّة ​​أخرى أن نركع طوال الوقت. بعد مرور يومين أدخلونا إلى تحقيق آخر، وهناك سألوني عن عائلة أبو راس، التي تنتمي إلى حماس. قلتُ: "ليست من عائلتنا"، لكنّ المحقّق لم يقتنع. وقام جنديّ كان يقف خلفي بضربي عدّة مرّات على رأسي، وقال لي: "اعترفْ بأنّك حماس".

عندما قلتُ له "أنا مش حماس" ضربني عدّة مرّات أخرى. بعد ذلك ربطوا يدَيّ ورِجليّ إلى السياج بينما كانت يداي ممدودتين إلى أعلى وأبقوني هكذا في "شبح" لأكثر من 5 ساعات. خلال أقلّ من ساعة شعرتُ بآلام في جميع أنحاء جسمي، في الكتفين واليدين والرِجلين. بعد ذلك لم أعد أشعر بها. فقدتُ الإحساس بجسمي كلّه.

عندما أنزلوني أخذوني إلى البركس، لكنّني لم أكنْ قادرًا على المشي لأنّ جسمي كلّه كان يؤلمني بسبب "الشبح". أبقوني في البركس 15 يومًا، كنّا جميعًا راكعين هناك طوال الوقت. أكلنا، نمنا وذهبنا إلى المرحاض ونحن مقيّدون . كنّا مقيّدين بالأصفاد طوال الوقت، ومُنِعنا من التحدّث أو التحرّك أو حتّى النظر جانبًا.

أكلنا، نمنا وذهبنا إلى المرحاض ونحن مقيّدون . كنّا مقيّدين بالأصفاد طوال الوقت، ومُنِعنا من التحدّث أو التحرّك أو حتّى النظر جانبًا

مع انتهاء الـ 15 يومًا سمحوا لنا بالاستحمام وأعطونا ملابس داخليّة نظيفة. دخلتُ إلى الحمّام بدون أصفاد، لكن مع عصابة عينين لم يقوموا بإزالتها إلّا في داخل الحمّام. في كلّ مرّة أدخلوا 4 أشخاص معًا إلى الحمّام. عندما دخلتُ إلى الحمّام كان الماء باردًا جدًّا، وكان الطقس باردًا أيضًا. لم أغسل سوى الجزء السفليّ من جسمي، لأنّني لم أستطع تحمّل البرد. بعد الاستحمام أعادونا إلى البركس، وركعنا ثانيةً على ركبنا ونحن مقيّدون، دون أن نتكلّم أو نتحرّك.

بعد مرور بضعة أيّام أخذوني إلى غرفة التحقيق. سألني الضابط عن أسماء أقاربي، ومن هم إخوتي، وكم عدد أفراد عائلتنا، وفي النهاية وقَّعتُ على ما كتبَه هو من أقوالي.

طوال ذلك الوقت كنتُ أفكّر في زوجتي وأطفالي. ماذا حدث لهم بعد أن أوقفنا الجيش؟ هل قتلوهم؟ وإذا كانوا على قيد الحياة، فهل هم سالمون ومعافون أم مصابون؟ مرضى؟ هل عندهم ما يأكلونه ويشربونه، هل نزحوا جنوبًا أم ما زالوا في الشمال. كما تساءلتُ عموما عمّا حدث لغزّة، هل أبادوها، هل بقي شيء منها؟ هذه هي الأفكار التي شغلتني طوال الوقت.

تساءلتُ أيضًا لماذا اعتقلوني، ولماذا لا يزالون يحتجزونني، وماذا سيحدث لي هنا، ومتى سيطلقون سراحي؟ فكّرتُ في وضعي الصعب، خصوصًا في الظلمة التي انغمستُ فيها وأنا معصوب العينين، دون أن أرى شيئًا، والبرد القارس والرياح الشديدة. تجمّدتُ من الصقيع وكنتُ جائعًا وعطشانَ طوال الوقت.

فكّرتُ في وضعي الصعب، خصوصًا في الظلمة التي انغمستُ فيها وأنا معصوب العينين، دون أن أرى شيئًا، والبرد القارس والرياح الشديدة. تجمّدتُ من الصقيع وكنتُ جائعًا وعطشانَ طوال الوقت

بعد بضعة أيّام أصعدونا إلى حافلة مرّة أخرى ونحن مقيّدو الأيدي بالأصفاد ومعصوبو الأعين. كان ذلك في الظهيرة. عندما توقّفت الحافلة جاءت جنديّة، أزالت القيود وعصابة العينين وقالت لي: "اذهبْ إلى غزّة".

رأت عيناي النور لأوّل مرّة بعد 35 يومًا من الاعتقال. عندما نزلتُ من الحافلة رأيتُ أنّني في معبر وأنّ هناك نحو 100 معتقل آخر حولي. ركضنا جميعًا بسرعة ومررنا في المعبر (كرم أبو سالم). بعد ذلك واصلنا السير بوتيرة طبيعيّة حتّى وصلنا إلى عاملي الأونروا الذين قدّموا لنا الطعام والشراب. أكلنا تمرًا وشربنا ماء.

مكثتُ رهن الاعتقال غير المبرَّر وفي ظروف غير إنسانيّة لمدّة 35 يومًا. خلال فترة الاعتقال فقدتُ من وزني نحو 20 كيلوغرامًا. كانت تلك أقسى الأيّام التي مرّتْ عليّ على الإطلاق. كلّ يوم كان بنحو سنة. كان الأمر صعبًا على جميع المستويات- على المستوى النفسيّ، العاطفيّ والجسديّ. ممارسات التعذيب أضرّت بذكائنا، لأنّنا ببساطة فقدنا القدرة على التفكير. تمحور كلّ تفكيرنا فقط حول من يضربك أو يعذّبك أو يريد الانتقام منك. مررنا بتجربة قاسية جدًّا جدًّا.

سرتُ من معبر كرم أبو سالم إلى مفترق العودة في رفح ومن هناك حاولتُ الاتّصال بزوجتي وعائلتي، لكنّني لم أتمكّن من الوصول إليهم. اتّصلتُ بأخي محمّد الذي يعيش في الضفّة الغربيّة. أخبرتُه بأنّه تمّ إطلاق سراحي وطلبتُ منه أن يحاول الاتّصال بأقاربنا. تمكّن من الوصول إليهم وأبلغني بأنّهم سيأتون لأخذي. وبالفعل، حضر أبناء عمّي بعد نحو ساعة وأخذوني إلى مستشفى أبو يوسف النجّار في رفح.

في المستشفى أجروا لي فحوصات، وقال الطبيب إنّ عليّ الخضوع لعمليّة جراحيّة في يدي اليسرى لتحرير عصَب هناك.

بعد ذلك ببضعة أيّام فقط، وبعد محاولات عديدة، تمكّنتُ من الوصول إلى زوجتي وأطفالي عبر الهاتف. تبيّن لي أنّهم عادوا إلى المخزن الذي كنّا فيه في بداية الحرب، وأنّ الوضع هناك صعب للغاية وأنّهم في حالة يُرثى لها من جميع النواحي -نقص حادّ في الغذاء والماء، وكذلك القصف الذي لا يتوقّف. لا يمكن الحصول على السلع الأساسيّة جدًّا هناك. زوجتي هناك وحدها مع أطفالنا الصغار، وأبي رجل عجوز ومريض، لذلك ليس هناك أحد ليذهب ويحاول الحصول على السلع. زوجتي بالكاد تستطيع الحصول على شيء ما، ولم يعد لديها ما يكفي من المال أيضًا. إنّهم يأكلون مرّة واحدة في اليوم فقط.

ممارسات التعذيب أضرّت بذكائنا، لأنّنا ببساطة فقدنا القدرة على التفكير. تمحور كلّ تفكيرنا فقط حول من يضربك أو يعذّبك أو يريد الانتقام منك

كانت إحدى أصعب اللحظات عليّ وعلى زوجتي وأطفالنا عندما اتّصلتُ بهم لأوّل مرّة. قالتْ لي زوجتي: "أنت حيّ؟!". فوجئت بأنّني على قيد الحياة أصلًا. هي لم تكن تعلم بأنّنا كنّا رهن الاعتقال. بحثوا عن جثثنا في الرمال وتحت الأنقاض والأغراض، بعد أن ظنّوا أنّ الجيش الإسرائيليّ قتلنا جميعًا. بكينا معًا بعد أن تحدّثنا وعرفتُ أنّهم سالمون وبخير، وعرفوا هم أنّني حيّ. بالنسبة لزوجتي، كانت هذه أجمل بشرى سمعتها - أنّني حيّ وسليم ومعافى.

انفصالنا عن بعضنا هو وضع صعب للغاية؛ أنّنا لا نستطيع حتّى أن نكون معًا في هذا الوضع المريع. أنا في رفح وهم في غزّة، وأنا لا أستطيع الوصول إليهم أو مساعدتهم، ولا أستطيع إحضارهم إليّ لأنّه ليس لديّ مكان أحضرهم إليه، ويجري الحديث عن اجتياح إسرائيليّ لرفح. أنا محاصر هنا في مخيّم للمهجَّرين في رفح مع أبناء عمّي، وهم محاصرون في غزّة، وبالكاد نتمكّن من الحفاظ على اتّصال بيننا.

نحن موجودون هنا في مخيّم رُكّز فيه 2,400 مهجّر من غزّة وشمال القطاع. أعيش هنا شريدًا، مُهجَّرًا، أعاني من نقص في الغذاء والماء، في ظروف صحّيّة سيّئة للغاية. توجد هنا طوابير طويلة للمراحيض، لمياه الشرب وللحمّام. هناك ضجيج هائل طوال الوقت. حياة صعبة للغاية.

لكنّني لا أزال متمسّكًا بالأمل في أن تنتهي هذه المعاناة، وأن تتوقّف الحرب، وأن نعود إلى منازلنا وأجتمع من جديد بزوجتي وأطفالي وبقيّة أفراد عائلتي في حيّ الزيتون.

- سجّل الإفادة باحث بتسيلم الميدانيّ محمّد صباح، في 26.3.24.