أسر الجنود وانهيار الأساطير الإسرائيلية

  

26/5/2024- الجزيرة نت- ياسر سعد الدين كاتب وباحث ومحاضر سياسي

لم تتجاوز كلمة أبو عبيدة -الرجل الذي يستمع العالم بما فيهم الجماهير الإسرائيلية لحديثه بإصغاء وانتباه واهتمام- خمس دقائق، لكنها كانت بمثابة الحدث الكبير ونقطة الانعطاف الحاسمة والتي سيكون لها تداعيات كبيرة ليس على مجريات الحرب فحسب بل وعلى إسرائيل دولة وحكومة وشعبا وجيشا، بل وربما على المنطقة العربية والعالم.

نتنياهو يواجه خيارات تتراوح بين المر والعلقم، وتوشك حياته السياسية أن تنتهي نهاية وخيمة ومخزية، بعد أن كان يلقب بالملك لطول حكمه ونفوذه.

بعد نحو ثماني شهور من حرب مدمرة بوحشية غير مسبوقة، لم يفشل الاحتلال في تحقيقه أهدافه المعلنة وعلى رأسها اجتزاز المقاومة وتحرير الأسرى من غزة، بل انقلب السحر على الساحر وانعكست الصورة تماما، المقاومة تزداد تجذرا وقوة ومن يفترض أنهم المحررون يقعون في الأسر بطريقة مذلة ومهينة.

فنتنياهو يواجه خيارات تتراوح بين المر والعلقم، وتوشك حياته السياسية أن تنتهي نهاية وخيمة ومخزية، بعد أن كان يلقب بالملك لطول حكمه ونفوذه.

تأتي التطورات الميدانية الأخيرة والكبيرة والتي وقعت في منطقة شمال القطاع والتي أعلن الاحتلال منذ زمن بعيد عن تدمير المقاومة فيها واقتلاعها منها، فيما نتنياهو يخوض اشتباكات لفظية ويتراشق التصريحات والاتهامات مع القادة الأمنيين والعسكريين والسياسيين.

والمجتمع الإسرائيلي يعيش انقسامات حادة، ويتعزز كل يوم لديه الشعور بالهزيمة المذلة على يد مقاومة محدودة الإمكانيات والقدرات المادية، ويثير الريبة والشك في قلوب الجمهور الإسرائيلي -والذي بطبيعة الحال يمتلك بدائل للعيش والاستقرار في دوله الأصلية- حول مستقبل هذا الكيان اللقيط والهجين.

تداعيات ما حصل في مخيم جباليا وصور الجنود الإسرائيليين وهم يجرون في النفق على جنود الاحتلال كبيرة وشديدة، وتذكرنا بصور الجنود الأميركيين في الصومال عام ،1993 والتي أدت لانسحاب القوات الأميركية وفرارها من هناك.

كيف يقاتل جندي الاحتلال وهو يرى قيادة سياسية متخبطة في اشتباك لفظي مع القادة الأمنيين والعسكريين؟ كيف يقاتل وهو يتابع لا مبالاة السياسيين بحياة الأسرى والجنود؟ فعملية مخيم جباليا وجهت صفعة معنوية كبيرة للعسكرية الإسرائيلية، والمتوقع أن صور إضافية والتي قد تبثها المقاومة ستدفع بتلك المعنويات إلى مزيد من السقوط والانهيار والتداعي.

بن غفير صرح تعليقا على قرار محكمة العدل الدولية وحكمها بوقف الهجوم على رفح، (مستقبلنا ليس منوطا بما يقوله الأغيار بل بما نفعله نحن اليهود).

تأتي التطورات الميدانية فيما الاحتلال يواجه صفعات سياسية من كل جانب، وغضب جماهيري عالمي يتصاعد ويتوالى عليه من شتى اصقاع المعمورة: من المحكمة الجنائية الدولية إلى محكمة العدل الدولية إلى ثورات الجامعات الغربية والأميركية إلى اعتراف أوروبي بفلسطين، وحتى تصريح نائبة رئيس الوزراء الإسباني يولاندا دياز، والذي قالت فيه بأن تحرك إسبانيا للاعتراف بالدولة الفلسطينية مجرد البداية ونحن نعيش لحظة يعتبر فيها القيام بالحد الأدنى أمرا بطوليا، لكنه غير كاف في الوقت ذاته خاتمة حديثها، بعبارة -لا يجرؤ النظام العربي الرسمي حتى على الهمس بها- فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر.

ما يثير مشاعر الغضب والحنق العالمية الشعبية وربما الرسمية من الاحتلال الإسرائيلي وسياسيه، هو أحاديث الأفك والدجل والاستعلاء والاستخفاف بالعقول، والتي يرددها نتنياهو وشركاؤه في الحكم خصوصا من المتطرفين.

بن غفير صرح تعليقا على قرار محكمة العدل الدولية وحكمها بوقف الهجوم على رفح، "مستقبلنا ليس منوطا بما يقوله الأغيار بل بما نفعله نحن اليهود". وما أن يصدر تعليق أو طلب حتى من أصدقاء الاحتلال وداعميه -وربما لأغراض سياسية بحتة- بالاهتمام بالمعاناة الإنسانية الكبيرة والتي يعاني منها سكان القطاع جراء حرب الإبادة الصهيونية بحقهم، إلا وانبرى قادة الصهاينة وعلى رأسهم نتنياهو ليتحدثوا عن أن جيشهم هو الأكثر أخلاقية في العالم.

هذا الاستهتار بالحقائق وعقول الناس يفقد الكيان مصداقيته تماما، بل ويملأ قلوب جماهير العالم بالسخط عليه وبالاشمئزاز من سياسيه خصوصا حين يصفون مواقف الآخرين بالمثيرة للاشمئزاز. أما تكرار وصف من يعترض على جرائم الاحتلال أو يطالب بالتخفيف من معاناة الفلسطينيين بمعاداة السامية بشكل مبالغ فيه، فقد أدت بتقديري بالكثيرين ليتساءلوا عن مصداقية السردية الإسرائيلية في جميع المسائل بما فيها المحرقة.

تتهاوى أساطير دولة الاحتلال وتتزعزع الأسس التي قامت عليها واحدة تلو أخرى، فلا هي دولة ديمقراطية، بل دولة عنصرية لا تأبه بالأخلاق والقيم، ونظامها السياسي قائم على الاستعلاء والاستكبار والأساطير الزائفة، وجيشها رعديد جبان لا يستطيع مواجهة مقاومين بإمكانيات مادية محدودة

صورة الاحتلال عالميا حاليا هي مزيج من وحشية وقسوة وحرب إبادة وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين والأطفال، وتدمير مقومات الحياة واستهداف المستشفيات والمساجد والكنائس من جانب، ومن جانب آخر عجز عسكري وجيش شبه منهار وخور وبكاء ودموع وإعلام كاذب في القضايا الإنسانية والعسكرية والسياسية.

فيما على الجهة الأخرى، فإن صورة الفلسطيني هي مزيج من الصبر والمصابرة والصمود والاستعداد الكامل للتضحية والعطاء والرضا والتسليم والإرادة وتعاون وتكافل من ناحية، ومن ناحية أخرى بطولات أسطورية وروح معنوية عالية وإقدام وشجاعة لا نظير لها وخطاب إعلامي رصين وذو مصداقية عالية.

تتهاوى أساطير دولة الاحتلال وتتزعزع الأسس التي قامت عليها واحدة تلو أخرى، فلا هي دولة ديمقراطية، بل دولة عنصرية لا تأبه بالأخلاق والقيم، ونظامها السياسي قائم على الاستعلاء والاستكبار والأساطير الزائفة، وجيشها رعديد جبان لا يستطيع مواجهة مقاومين بإمكانيات مادية محدودة، جل إنجازاته التدمير وقتل الأطفال وانتهاك الحقوق والكرامة الإنسانية.

كل الاحتمالات مفتوحة الآن، تمرد عسكري من جنود الاحتلال ورفض للقتال، وربما انهيار حكومة نتنياهو وفراغ سياسي في الكيان، وتمرد عالمي يتعمق ويتوسع على الهيمنة الصهيونية الإعلامية العالمية خصوصا مع انهيار هيبة الدولة العبرية ومكانتها وسمعة جيشها ونظامها السياسي الموغل في التطرف والعنصرية، وازدراء الآخرين والاستخفاف بالعقل والمنطق.