محمّد صلاح (27 عامًا)، متزوّج، من سكّان برقة في محافظة نابلس

  

بتسليم - 24/3/2024

أقيم مع زوجتي رنيم (24 عامًا) في وسط بلدة بُرقة وأعتاش من عملي كسبّاك.

في يوم الاثنين الموافق 16.10.23، نحو السّاعة 3:00 فجرًا، أيقظتني وزوجتي رنيم طرقات قويّة على باب المنزل. ركضت بسُرعة لكي أفتح الباب، لأنّني خفتُ أن يفجّروه. لحظة أن فتحت الباب اندفع جنود إلى داخل المنزل. سألني أحدهم ما اسمي وأمرني بأن أناوله بطاقة هُويّتي، فيما أمرني جنديّ آخر بأن أناوله هاتفي. أعطيتهما البطاقة والهاتف.

مباشرة بعد أن ناولتهما بطاقة الهُويّة والهاتف قيّد أحد الجنود يديّ إلى الخلف بأصفاد بلاستيكيّة، وعصبوا عينيّ أيضًا. بعد مضيّ بضع دقائق قرّبوا جهاز هاتف من أذني وكان على الخطّ شخص قال لي إنّه قائد المنطقة. سألني هل أعاني من أيّ أمراض، فقلت له "لا". عندئذٍ قال لي إنّني معتقل.

أمسكني الجنديّان بقوّة من تحت إبطيّ وأمراني بأن أحني رأسي وظهري، ثمّ اقتاداني مسافة تقارب أربع كيلومترات، حتى وصلنا إلى مركبات "الجيب".

كانت إدارة السّجن قاسية معنا، ولم يكن للأسرى أيّ حقوق. فور نزولنا من المركبة التي نقلتنا إلى هناك أمرونا بأن نقف ووجوهُنا نحو الحائط

أجلسوني داخل إحدى مركبات الجيب ثمّ سارت بضع دقائق وتوقّفت في مكان هو في مستوطنة "شفي شومرون"، وفق معرفتي بها. جلبوني أمام قائد المنطقة فسألني عن الوضع في البلدة. قال لي إنّ أعلام حماس معلّقة هناك وسألني من الذي علّقها. قال لي أيضًا إنّ هذا الاعتقال هو استمرار لاعتقالي السّابق، وذكّرني بأنّه قد أطلق سراحي قبل سنة تمامًا، في مثل هذا اليوم بالضبط.

بعد ذلك نقلوني إلى معسكر للجيش في حوّارة، وقد وصلت إلى هناك مع أذان الفجر. سألت أحدهم "أين أنا"، فقال لي "حوّارة". احتجزوني داخل زنزانة حتى صباح اليوم التالي ثمّ نقلوني إلى "بيتَح تيكفا" مع نحو عشرة أسرى آخرين من مناطق مختلفة. اتّضح لي أن أربعة منهم من بلدتي، لكن كانت لي معرفة مسبقة بواحد منهم فقط.

في "بيتَح تيكفا" حقّقوا معنا، واحدًا تلو الآخر. كنّا طوال الوقت مكبّلي الأيدي والأرجُل، دون طعام ودون ماء. عندما طلبنا رفضوا قائلين "نحن في حالة حرب".

جرى التحقيق معي في ساعات ما بعد الظهر، واستمرّ عشر دقائق فقط. كان هناك شخص بلباس مدنيّ سألني أسئلة وأجاب عليها بنفسه. سألني "هل رشقت حجارة؟"، وقبل أن أجيبه كتب "لا". ثمّ سأل "هل رشقت مولوتوف؟" ومجدّدًا كتب "لا". كان يكتب بالعربيّة. أردت أن أقرأ ما كتبه لكنّه قال إنّه لا وقت لديه، وطلب أن أوقّع.

في المساء نفسه نقلونا من "بيتَح تكفا" إلى "مجيدو"، وهناك بدأت المشاكل. كانت إدارة السّجن قاسية معنا، ولم يكن للأسرى أيّ حقوق. فور نزولنا من المركبة التي نقلتنا إلى هناك أمرونا بأن نقف ووجوهُنا نحو الحائط. كنّا عشرة أشخاص – جميعنا مكبّلي الأيدي والأرجُل ومعصوبي الأعيُن. صرخوا علينا، شتمونا، وأمرونا بأن نشتم حماس والرّئيس أبو مازن. كان هناك شخص يسأل كلًّا منّا إلى أيّ تنظيم ينتمي. من أجاب "حماس" أمروه بأن يشتم حماس، ومن أجاب "فتح" أمروه بأن يشتم أبو مازن. عندما جاء دوري قلت له إنّني لن أشتم أيّ طرف، وعندئذٍ قال لي أحدهم "سوف نرى بهذا الخُصوص في الدّاخل".

عند الدخول فتّشونا وصوّرونا. تفتيش بواسطة جهاز كشف المعادن وتفتيش جسدي ونحن عارون تمامًا. كنّا في الغرفة عشرة أسرى ونحو عشرة سجّانين وقد أمرنا هؤلاء أن نخلع ملابسنا حتى تعرّينا تمامًا، ثمّ أخذوا ملابسنا. بعد التفتيش أعادوا لنا الملابس في كومة واحدة وكان علينا أن ننبشها لكي يعثر كلّ على ملابسه. من هناك أخذونا لاستخراج "بطاقة أسير"، في مكان يبعد نحو 100 متر عن المكان الذي أجروا فيه التفتيش. على طول الطريق إلى هناك وقف سجّانون، وكانوا ينهالون علينا ركلًا ولكمًا على وجوهنا. هكذا فعلوا مع كلّ الأسرى.

الزنزانة التي تتّسع لأربعة أسرى أدخلوا إليها ستّة. لم تكن هناك بطّانيّات ولا فرشات، لا شيء. كانت الغرفة مجرّد حيطان وباطون

بعد ذلك أخذونا إلى الزنازين. الزنزانة التي تتّسع لأربعة أسرى أدخلوا إليها ستّة. لم تكن هناك بطّانيّات ولا فرشات، لا شيء. كانت الغرفة مجرّد حيطان وباطون. رأيت الفرشات والبطّانيّات عند مدخل الغرفة، وقد أخرجوها من الزنزانة قبل أن أدخلونا إليها. ولأنّني كنت أرتدي بنطالًا قصيرًا وقميص نصف كُمّ فقط شعرتُ بالبرد، فألصقت ركبتيّ بصدري لكي أستطيع أن أغفو. لكن لم أستطع أن أغفو سوى دقائق معدودة في كلّ مرّة، وهذا أيضًا بسبب كثرة التعب.

كان هناك انسداد في المرحاض الموجود في الزنزانة نفسها. في المرّة الأولى التي استخدمنا فيها المرحاض فاضت المياه منه ووصلت إلى حيث نجلس. طلبنا من السجّان أن يفعل شيئًا لإصلاح الوضع، لكنّه ردّ قائلًا "ممتاز" وذهب. لم تكن هناك أيّ موادّ تنظيف.

كنّا نحصل على ثلاث وجبات في اليوم. كان الطعام خاليًا من الملح ومن أيّ توابل، ولا طعم له. في وجبة الفطور قدّموا لكلّ أسير ملعقة جبنة بيضاء ولا شيء آخر. وجبة الغداء كانت عبارة عن ثلاث ملاعق أرزّ أو بُرغل، وبضع قطع خيار، بندورة أو ملفوف مقطّع بدا كأنّهم معسوه معْسًا. والأمرُ نفسه في المساء: ثلاث ملاعق أرزّ أو بُرغل مع بيضة كانت في معظم الأحيان غير مسلوقة تمامًا. وكنّا نحصل مرّة في الأسبوع على مربّى وملعقة حمّص أو اثنتين.

في البداية لم أتناول الطعام لأنّه كان نصف مطبوخ، باردًا، وخاليًا من الزيت والملح والتوابل. مرّت علينا أيّام لم نتناول فيها أيّ طعام، وأحيانًا كنّا نجمع الوجبات الثلاث لكي نتناولها دفعة واحدة. في الساعة 22:00 ليلًا كنّا دائمًا نجوع مجدّدًا ونذهب للنوم ببطون خاوية.

وصلت إلى الزنازين في "مجيدو" بعد أن أخذت إدارة السّجن من الأسرى جميع الأدوات الكهربائيّة والمواد الغذائيّة (مثل السكّر والزيت والقهوة والشاي). عندما كنّا نجلس سويّة في اللّيل، كان أحدنا يقول فجأة "أخ… ليت لي فنجانَ قهوة!"، فيردّ آخر "أخ… ليت لي سيجارة"، ونستمرّ هكذا حتى نغفو جائعين ومقهورين.

كانوا ينقّلونني من قسم إلى قسم ومن زنزانة إلى زنزانة. في إحدى الزنازين حشرونا معًا 12 أسيرًا والزنزانة تتّسع لستّة. كان في الزنزانة ستّة أسرّة والبقيّة ينامون على فراش أرضيّ. كانت لكلّ أسير بطّانيّة واحدة لا تدفئ بما يكفي، وكنّا نعاني من البرد طوال الوقت. عندما وصلت إلى "مجيدو" أعطاني أحد الأسرى بنطالًا وقميصًا. بعد مضيّ أربعة أيّام غسلتهما. حينذاك أجروا تفتيشًا في الزنزانة وبالطبع صادروهما منّي وبقيت مرّة أخرى ببنطال قصير وقميص نصف كُمّ. لم يُبقوا شيئًا لأيّ أسير سوى الملابس التي يرتديها. أيّ أسير يُطلق سراحه كان يُعطينا ملابسه الإضافيّة قبل أن يغادر. بعض الأسرى كانوا يرتدون ملابسهم طبقات فوق طبقات لأنّ السجّانين كانوا يصادرون أيّ ملابس يجدونها في الغرفة. لدى إطلاق سراحي خرجت بالملابس التي دخلت بها – بنطال قصير وقميص نصف كُم.

كان السجّانون كلّما أجروا تفتيشًا في الزنزانة يُبعثرون ويقلبون كلّ شيء. مثلًا، كانوا يسكبون على الفرشات شامبو ومعجون أسنان أو كلور وغيره ممّا يجلبونه معهم، ما جعل بعض الفرشات غير قابلة للاستعمال. كنّا نطابق فرشتين وننام عليهما بالعرض، كلّ ثلاثة أسرى معًا. كانوا في أيّام الأحد يوزّعون علينا شامبو ومعجون أسنان، وفي التفتيش الذي يُجرونه في اليوم التالي يسكبونها كلّها على الفرشات.

الطابق الأوّل كان مُعتمًا جدًّا وحتى خلال النهار يبدو كأنّ الوقت ليل

في وقت العدد كانوا يُجبروننا على الرّكوع وأيدينا فوق رؤوسنا، وكانوا يُجرون العدد ثلاث مرّات يوميًّا: في الخامسة صباحًا، في العاشرة صباحًا، وفي الخامسة عصرًا.

كانت الإنارة في الزنازين متوفّرة فقط من السّاعة 18:00 حتى 22:00. الطابق الأوّل كان مُعتمًا جدًّا وحتى خلال النهار يبدو كأنّ الوقت ليل. في الطابق الثاني كان الوضع أفضل قليلًا. مكثت في الطابق الثاني خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأوّل، ثمّ مكثت في الطابق الأوّل خلال شهري كانون الثاني وشباط.

في بداية كانون الأوّل 2023 كنت معتقلًا في القسم 6 عندما أغاروا عليه. اقتحم عدد كبير من السجّانين جميع الزنازين. كبّلوا أيدينا، أوقفونا ووجوهنا نحو الحائط وانهالوا علينا ضربًا بالعصيّ طوال دقائق. ضربوني في منطقة الظهر والكتفين. بعد ذلك غادروا الزنازين، لكنّهم اقتادوا من إحداها الأسرى إلى زنزانة أخرى وهناك استمرّوا في ضربهم. علمت أنّهم كسروا عدّة أضلاع للأسير عبد الرحمن البحش، من نابلس. بعد ذلك عانى من أوجاع فظيعة مدّة يومين، ثمّ تدهور وضعه يومًا بعد يوم حتى فارق الحياة في 1.1.24. أعلنّا إضرابًا عن الطعام لمدّة ثلاثة أيّام، لكنّهم عادوا وضربونا فاضطُررنا إلى إلغاء الإضراب. كنت في الزنزانة رقم 4، لكنّهم كانوا ينقلونني من قسم إلى قسم ومن زنزانة إلى أخرى مرّة كلّ أسبوعين تقريبًا.

في البداية لم تتوفّر لنا أيّة وسيلة لقصّ شعرنا أو أظفارنا. ذات مرّة، خلال شهر كانون الثاني 2024 جلبوا لنا ماكينة حلاقة ومقصّ أظفار، وقد انكسر في الشهر نفسه. ماكينة الحلاقة لم يعرف أيّ منّا طريقة استعمالها، وعندما حلقت شعري بها كانت النتيجة سيّئة جدًّا. الخيار الآخر كان حلق شعر الرأس كلّه، لكنّ هذا سبّب انتقال عدوى الأمراض الجلديّة. في إحدى الزنازين أصيب أسرى بالجرب عندما استخدموا الماكينة دون تعقيمها.

المياه السّاخنة كانت متوفّرة دائمًا في الحمّامات، غير أنّنا لم نستطع الوصول إليها سوى في أوقات "الفورة". كان هناك سبعة حمّامات فقط، بينما هُم يُخرجون في كلّ مرّة 36 أسيرًا دفعة واحدة، وبالتالي لم يكن ما يكفي من الوقت لاستحمام الجميع. كنّا نستحمّ يومًا بعد يوم. لم تكن لدينا مناشف، لا كبيرة ولا صغيرة، لأنّهم صادروها جميعًا. كنّا نجفّف أجسامنا بالملابس.

جلسات محاكمتنا كانت تجري في القسم عبر تطبيق "زوم" وكنا نشارك فيها. في البداية أصدروا بحقّي أمر اعتقال إداريّ لمدّة ثلاثة أشهُر، وفي 24.1.24 - بعد مرور تسعة أيّام على انتهاء مدّة اعتقالي الإداريّ الأولى - عقدوا جلسة مُحاكمة أخرى ومدّدوا اعتقالي الإداريّ لمدّة ثلاثة أشهُر أخرى. أطلق سراحي في 29.2.24.

يوم إطلاق سراحنا أجبرونا على التوقيع على تصريح بأنّهم لم يضربونا ولم يهينونا، علمًا بأنّهم ضربونا حتى أثناء التوقيع على هذا التصريح. لم أتمكّن من كتابة اسمي كاملًا لأنّ السجّانين كانوا يضربونني على وجهي وعُنقي وظهري. صمتّ، لأنّني أردت فقط التخلّص منهم والخروج من السّجن.

كنّا في عُزلة تامّة، مقطوعين عن العالم ولا نعرف ما الذي يجري في الخارج

لم ألتق محاميًا طوال فترة اعتقالي. كما لم ألتق والديّ وأفراد أسرتي، لأنّهم ألغوا الزيارات تمامًا. كنّا في عُزلة تامّة، مقطوعين عن العالم ولا نعرف ما الذي يجري في الخارج. لم نتمكّن من متابعة الأخبار لأنّهم أخذوا أجهزة التلفزيون والرّاديو. كان الأسرى الوافدون حديثًا هُم مصدر معلوماتنا الوحيد. كان همّنا الوحيد أن نعرف منهم هل تمّ التوصّل إلى صفقة تبادُل أسرى - لأنّنا أردنا التخلّص من هذا الجحيم. أحاديث الأسرى كلّها كانت تدور حول هذا الموضوع.

لقد ناضل الأسرى الفلسطينيّون طوال عشرات السّنين لأجل تحصيل حقوقهم في السّجون، وقد أنجزوا ونالوا شروطًا أفضل دفعوا لقاءها من دمائهم. جميع هذه الحقوق سُلبت مجدّدًا مع اندلاع الحرب وتدهورت أوضاع الأسرى كثيرًا.

أثناء فترة اعتقالي فقدت من وزني 10 كغم، وهناك أسرى فقدوا 40 كغم. كان وزني قبل الاعتقال 70 كغم، وعندما أطلق سراحي كان وزني 60 كغم.

عندما خرجت من السّجن كان أوّل شيء أردت القيام به هو أن أحلق شعري وأهذّب لحيتي قبل لقاء زوجتي وعائلتي، لأنّ منظري كان مخيفًا مع "القَصّة" التي أجراها لي زميلي في الزنزانة. كذلك كنت توّاقًا بشدّة إلى قصّ أظفاري والاستحمام بالصّابون والشامبو، بهدوء ودون حثّ من بقيّة الأسرى الذين ينتظرون دورهم ولا يعرفون هل سيكفي الوقت ليدخلوا هُم أيضًا.

كان كلّ تفصيل صغير في السّجن يغدو مسألة ذات أهميّة عُظمى، لأنّ السجّانين يتدخّلون ويسيطرون على كلّ شيء، وكلّ شيء يذكّرك بأنّك أسير بلا حوْل ولا قوّة.

-  سجّلت الإفادة باحثة بتسيلم الميدانيّة سلمى الدّبعي في 24.3.24.