أ. د. (19 عامًا), طالبة في الصيدلة من سكّان مخيّم جباليا للاجئين

  

بتسيلم - 17/1/2024

كنتُ أسكن مع والديّ، حاتم وخولة، وإخوتي الثلاثة، أسامة (17 عامًا) ومحمّد (16 عامًا) وعبد الله (14 عامًا)، وأختيّ، سارة (4 سنوات) وميس (9سنوات)، في مخيّم جباليا للاجئين. في بداية الحرب، كانت هناك عمليّات قصف وإطلاق نار في المنطقة، لكنّها لم تكن قريبة جدًّا منّا، لذلك بقينا في المنزل. لكن في 7.11.23، في الساعة 23:00، كانت هناك عمليّات قصف قريبة جدًّا منّا، وقام الجيش أيضًا بإلقاء مناشير تطالبنا بالخروج. لم نغادر على الفور، انتظرنا لنرى ما سيحدث. لكن في 18.11.23، بعد صلاة الفجر، أخذنا معنا بعض الملابس والأغطية والوثائق وهواتفنا وغادرنا. وصلنا في البداية إلى مدرسة تابعة للأونروا في منطقة الفالوجة في مخيّم جباليا، وبعد عدّة ساعات انتقلنا إلى منزل خالي، إياد سالم (53 عامًا)، في داخل المخيّم.

كنّا هناك نحو عشرين شخصًا. في يوم وصولنا تضرّر المنزل من جرّاء القصف وفقدنا ثلاثة من أفراد العائلة: أخي محمّد، ابنة خالي شمس سالم (13 عامًا) وزوجة جدّي مريم سالم (55 عامًا). أصِبتُ أنا وأسامة وعبد الله من جرّاء حطام البناء الذي سقط علينا. جُرِح أسامة في رأسه وكان بحاجة إلى قُطَب، فتمّ إخلاؤه سويّةً مع ميس وسارة اللتين أصيبتا بكدمات طفيفة، إلى مستشفى العودة، وتمّ إخلائي أنا وعبد الله إلى المستشفى الإندونيسي. والدانا لم يُصابا بأذى. في المستشفى أجروا لنا فحوصات وأبقونا في المستشفى طوال الليل. في صباح اليوم التالي قمنا بدفن أخي محمّد.

عندما تمّ تسريحنا من المستشفى، ذهبنا إلى منزل خال آخر لنا، محمّد سالم (46 عامًا)، وهو في مخيّم جباليا أيضًا، والذي كانت بقيّة العائلة قد انتقلتْ إليه. كان هناك 35 شخصًا وكان مكتظًّا جدًّا، وكانت القذائف والشظايا تسقط على المنزل طوال الوقت. لم يعد لدينا أيّ شيء حينها. لا ملابس، لا أغطية ولا حتّى أحذية. كلّ شيء تلاشى من جرّاء القصف. بقينا هناك أربعة أيّام ثمّ قرّر أبي أنَّ علينا التحرُّك جنوبًا.

أمسكت بي جنديّتان من كلا الجانبين واقتادتاني من هناك إلى مكان طلبتا منّي فيه التوقيع على مستند. كانت عيناي لا تزال مغطّاة ووقّعتُ دون أن أرى ما كنتُ أوقّع عليه

في 22.11.23 صلّينا صلاة الفجر وخرجنا. عثرنا على سيّارة أخذتنا إلى ساحة الكويت على شارع صلاح الدين. وصلنا إلى هناك قرابة الساعة 10:00، ومن هناك أخذنا عربة يجرّها حمار. وصلنا إلى حاجز "نتسريم" في غضون عشر دقائق.

كانت في الحاجز عدّة دبّابات. أمّي أمسكت بيد أخي عبد الله، وأنا أمسكتُ بيد أختي سارة، وميس سارت أمامنا. مشينا في صفّ واحد، جنبًا إلى جنب. كان هناك بعض الجنود على كومة ترابيّة يوزّعون التعليمات. أمرونا بالجلوس على الأرض على بُعد نحو ثلاثين مترًا عنهم، وبعدم التحرّك. صوَّب أحدهم السلاح نحونا. بعد نصف ساعة تقريبًا أمرونا بالذهاب ونحن نرفع هويّاتنا وبالحفاظ على مسافة متر واحد بين كل فرد منا.

سمعتُ جنديًّا يعلن عبر مكبّر الصوت أنّ مَن ترتدي معطفًا أحمر وتلك التي خلفها ذات الوشاح الأبيض عليهما أن تحضرا إليه. كانت ميس ذات المعطف الأحمر وكنتُ أنا ذات الوشاح الأبيض. شتمنا وأمرنا بأن نحضر إليه مرّة أخرى. أخذتُ ميس وذهبنا للوقوف في طابور الأشخاص الذين نادوا عليهم. طلب جنديّ كان يجلس خلف كومة ترابيّة، على بُعد نحو 15 مترًا عنّي، رقم بطاقة هويّتي عبر مكبّر الصوت، وسألني إذا كان أحد من عائلتي ينتمي إلى حركة حماس. أجبتُ لا، فسألني: هل سمعتِ شيئًا عن المختطفين الإسرائيليّين؟ أجبتُ لا. سألني عن عدد إخوتي وأخواتي وعن ترتيبهم. بعد ذلك قال إنّهم سيسألونني بعض الأسئلة باستخدام جهاز كشف الكذب ثمّ سيطلقون سراحي.

أخذنا الجنديّ، أجلسنا على الرمل ثمّ عصبوا أعيننا. ألقيتُ نظرة خاطفة من تحت العصابة ورأيتُ فتاة وأكوامًا من الرمل أمامي. سمعتُ جنديّات يقتربن. أقامونا واقتادونا لمدّة دقيقتين ثمّ أجلسونا مرّة أخرى على الرمل. أزالوا لي عصبة العينين وطلب جنديّ منّي اسمي الرباعيّ ورقم هويّتي. كما أراد أيضًا رقم هويّة سارة، فقلتُ له إنّها صغيرة وليس لديها بطاقة هويّة. قال لي أن أذهب برفقتها إلى الطابور الثاني. وقفنا هناك لمدّة ربع ساعة تقريبًا ثمّ جاء دورنا. طلب جنديّ منّي فقط أن أذهب إلى كومة صغيرة من الرمل. رأيتُ أمّي من بعيد، وقلتُ لسارة أن تعود إليها.

كانت إحدى الصبايا تعاني من آلام. طلب منّي الجنود أن أترجم ما كانت تقوله إلى الإنجليزيّة، فترجمتُ لهم أنّها تعتقد أنّها أجهضت طفلها. قال أحد الجنود Oh My God

بعد ذلك طلب منّي الجنديّ أن أتقدّم نحو علمين أخضرين. ذهبتُ الى هناك. كان هناك ممرّ عبرتُ من خلاله، ثمّ رأيتُ أنّني خلف جدار، وحيدة مع ثلاث مجنّدات وجنديّ. أمروني بالدخول إلى الخيمة التي كانت قريبة من هناك. عندما دخلتُ كانت هناك جنديّات وطلبن منّي أن أخلع ملابسي وأن أضع هاتفي وحقيبتي، التي كانت تحتوي على مجوهرات أمّي، على الأرض. خلعتُ ملابسي ثمّ طلبت منّي إحدى الجنديّات أن أستدير ثمّ أرتدي ملابسي.

عصبت المجندات عينيّ بقطعة قماش وقيّدن يديّ من الأمام بأصفاد بلاستيكيّة بيضاء. أمسكت بي جنديّتان من كلا الجانبين واقتادتاني من هناك إلى مكان طلبتا منّي فيه التوقيع على مستند. كانت عيناي لا تزال مغطّاة ووقّعتُ دون أن أرى ما كنتُ أوقّع عليه. أجلستاني على كرسيّ، وأزالتا عصابة العينين، وكان هناك شخص سألني بالعربيّة عن اسمي الرباعيّ وكم عمري. سألني ماذا أدرس وفي أيّ سنة أنا وطلب أسماء والديّ وإخوتي وأراد أن يعرف ماذا يفعلون. قلتُ له إنّ أمّي معلّمة في مدرسة تابعة للأونروا وأبي طبيب ومحاضر في الجامعة. سمعتُ أصوات معتقلات أخريات هناك، يبدو لي أنّهن كنّ هناك ستّ معتقلات تقريبًا. جلب لنا الجنود ماء. كان الجوّ باردًا وطلبت إحدى الفتيات بطانيّة، لكنّهم لم يعطوها. ربطوا بيدي قطعة من البلاستيك عليها الرقم 12.

جلسنا وانتظرنا وحين حلّ الليل أدخلنا الجنود إلى سيّارة وقام أحدهم بركلنا. سافرنا لمدّة نصف ساعة تقريبًا. سمعنا صراخ رجال، كانوا في سيّارة جيب أخرى، كما يبدو. أنزلونا من سيّارة الجيب واقتادونا إلى خيمة حيث أجلسونا على الأرض وكانت مليئة بالحجارة. كنّا ستّ فتيات هناك. كان الجوّ باردًا وطلبنا بطانيّات، فأحضروا بطانيّة خفيفة لكلّ واحدة منّا. كانت إحدى الصبايا تعاني من آلام. طلب منّي الجنود أن أترجم ما كانت تقوله إلى الإنجليزيّة، فترجمتُ لهم أنّها تعتقد أنّها أجهضت طفلها. قال أحد الجنود Oh My God. دخلتْ طبيبة وغطّتها ببطانيّة وقالوا لها أن تنتعل حذاءً لكي تخفّف من شعورها بالبرد. طلب منّا الجنود أن ننام، لكنّ الجوّ كان باردًا جدًّا وتمدّدنا مقيّدات بالأصفاد على الحجارة، لذلك لم نتمكّن من النوم حقًّا.

في الصباح، اقتادنا جنديّ، ونحن حافيات، على أرض مليئة بالحجارة، إلى الحافلة. أجلسوا كلّ واحدة منّا على مقعد منفرد وأمرونا بحنْي ظهورنا وخفْض رؤوسنا. سافرنا بالحافلة وقتًا طويلًا. نزلنا في مكان لم أعرفه من قبل. لاحقًا، علمتُ من الأسيرات بأنّه معسكر "عنتوت". أجلسونا على حجارة في منطقة محاطة بسياج من الأسلاك الشائكة.

من هناك أخذونا واحدةً تلو واحدة إلى غرفة كان فيها عدد من الجنديّات. في الغرفة أزلْن العصابة عن أعيننا وأعطيننا ملابس أخرى لنرتديها. كانت تلك ملابس خفيفة، بنطالًا رماديًّا وقميصًا لونه بيج. أمرنَنا بخلع غطاء الرأس وعندما طلبتُ إبقاءه قلن إنّ ذلك ممنوع. أخذوا السلسلة الذهبيّة والسوارين اللذين كنتُ أضعهما عليّ، وكذلك 700 دينار كانت معي، وجعلنني أوقّع على مستند إيداع، دون أن يترجمنَ لي مضمونه. صوّرنني بالهاتف الخلويّ دون غطاء رأس. سألني أحد الجنود من أين أعرف الإنجليزيّة ثمّ أخذونا إلى عيادة حيث أجروا لنا بعض الفحوصات مثل درجة حرارة الجسم وضغط الدم. سألوني إذا كنت أعاني من أمراض وأجبت بأنّني مريضة بالثلاسيميا وأتناول حمض الفوليك.

قيّدوا يديّ بالأصفاد وأخذوني إلى مكان يشبه قفصًا حديديًّا، في الخارج. التقيتُ هناك بالفتيات اللاتي كنّ معي من قبل. احتجزونا هناك في القفص لمدّة أسبوع

بعد ذلك قيّدوا كلّ اثنتين منّا معًا بأصفاد معدنيّة، أحد الأصفاد في الرجل اليمنى والثاني في الرجل اليسرى. قامت الجنديّة بشدّهما. عصبوا أعيننا وأصعدونا إلى حافلة وسافرنا خمس دقائق. في الحافلة سمعتُ الصبيّة التي قالت سابقًا إنّها أجهضت تصرخ من الآلام، فصرخ عليها ضابط. عندما وصلنا أنزلونا، أزالوا الأصفاد وأخذونا إلى التحقيق، واحدةً تلو الأخرى، معصوبات الأعين.

عندما جاء دوري للتحقيق، أدخلتني جنديّة إلى المكتب. أزالت لي العصابة عن عينيّ وأجلستني. دخل محقّق وسألني كم عمري، ماذا أدرس، كم أخًا وأختًا لديّ، وسألني عن أعمامي وأخوالي، وماذا يشتغل والداي، وإن كان لدينا سلاح، وإذا كنتُ أعرف أشخاصًا من حماس. أراني صورة ابن عمّتي وسألني عنه. قلتُ له إنّني لا أعرف أين يعمل وليس لديّ صلة به. طلب رقم هاتفه وعندما لم أعرفه صرخ عليّ.

سألني عن المختطفين الإسرائيليّين في غزّة وطلب منّي أن أضع علامة على منزلي وبيوت الجيران على الخريطة. في كلّ مرّة قلت فيها إنّني لا أعرف شيئًا كان يصرخ عليّ. استمرّ التحقيق ساعة تقريبًا، وخلالها كان المحقّق يشتمني في معظم الوقت ولم يسأل أسئلة. قال إنّنا حمير، قذرون ولا نستحقّ أن نعيش. شتم أخي الذي قُتِل في القصف وقال إنّه يجب إبادة الأطفال في غزّة وترحيلنا جميعًا وتدمير بيوتنا ومحقنا. وقال إنّ الشعب الفلسطينيّ زبالة. وفي نهاية التحقيق قال لي المحقّق: أنت وقحة، وقحة، وقحة! ثمّ قال: خذوها.

قيّدوا يديّ بالأصفاد وأخذوني إلى مكان يشبه قفصًا حديديًّا، في الخارج. التقيتُ هناك بالفتيات اللاتي كنّ معي من قبل. احتجزونا هناك في القفص لمدّة أسبوع، وأخذوني خلال ذلك مرّتين أخريين إلى التحقيق. أعطوا كلّ واحدة منّا بطانيّة خفيفة واحدة. للأكل حصلنا على لبن، تفّاحة وكسرة خبز. كانوا يأخذوننا إلى المرحاض ونحن مقيّدات بأصفاد. كان المرحاض قذرًا جدًّا ولم يكن هناك ماء لغسل الأيدي.

في التحقيق الثاني سألوني عن مكان عدّة مواقع: مستشفى اليمن السعيد، مستشفى كمال عدوان، مدارس الأونروا، السوق في مخيّم جباليا للاجئين، وكذلك عن أسماء مصالح تجاريّة في السوق.

أجبرونا على الجلوس على حصى وكانت الجنديّات عنيفات للغاية. دفعنَنا وضربنَنا على رؤوسنا. استمر ذلك ثلاثة أيّام، كان ممنوعًا أن نستلقي، أن نتحرّك أو أن نلمس عصابة العينين

في 29.11.23، أصعدونا ونحن مقيّدات بأصفاد إلى حافلات كانت تعمل فيها المكيّفات الهوائيّة بقوّة كبيرة وكان الهواء متجمّدًا وسافروا بنا إلى سجن الدامون. في السجن أدخلونا إلى زنزانة صغيرة فيها مرحاض، ستّ فتيات معًا. في يوم الثلاثاء، 9.1.24، جاء جنود من السجن، نادوا على أسمائنا وأبلغونا بأنّه سيتمّ إطلاق سراحنا. تمّ إطلاق سراح إحدانا، نهال الغندور، قبل الأخريات.

نقلونا إلى مركز اعتقال آخر وأيدينا وأرجلنا مقيّدة بأصفاد. رأيتُ لافتة مكتوبًا عليها بئر السبع. بقينا هناك ثلاثة أيّام وكانت المعاملة هناك سيّئة للغاية. أجبرونا على الجلوس على حصى وكانت الجنديّات عنيفات للغاية. دفعنَنا وضربنَنا على رؤوسنا. استمر ذلك ثلاثة أيّام، كان ممنوعًا أن نستلقي، أن نتحرّك أو أن نلمس عصابة العينين. أخذونا إلى المرحاض فقط. لم نحصل إلّا على القليل من التونة والخبز لنأكله.

في النهاية أعادوا لي السوارين والسلسلة والـ 700 دينار ونقلونا إلى معبر كرم أبو سالم في جنوب القطاع. عندما وصلتُ إلى هناك اتّصلتُ بعائلتي ثمّ جاءت أمّي لمقابلتي. أنا الآن مع عائلتي في مخيّم المهجَّرين في خان يونس.

خلال اعتقالي، لم يقم الصليب الأحمر بزيارتنا ولم يُسمح لنا بالتحدّث مع محام أو بإبلاغ عائلاتنا بمكان وجودنا.

* سجّلت هذه الإفادة باحثة بتسيلم الميدانيّة ألفت الكُرد في 17.1.24