فادي بكر (25 عامًا)، أب لطفلة صغيرة عمرها شهر، من سكّان حيّ تل الهوى في مدينة غزّة

  

بتسيلم-23/6/2024

أنا محامٍ ولديّ مكتبي الخاصّ في مدينة غزّة. ككثيرين غيري من الناس، كنتُ في 7 تشرين الأوّل في البيت مع زوجتي التي كانت حاملًا عندما بدأنا نسمع أصوات الصواريخ والقصف. خرجتُ على الفور للتزوّد بالطعام والماء، وعندما عدتُ بقينا في البيت. كنّا زوجين شابّين، تزوّجنا قبل شهرين فقط، وفضّلنا البقاء في البيت.

في بداية شهر تشرين الثاني تعرّضتْ بنايتنا للقصف وأصبتُ بحروق طفيفة. انتقلنا إلى منزل عائلتي، الواقع هو أيضًا في حيّ تل الهوى، وبقينا هناك ثلاثة أيّام. لكن حينها اشتدّت حدّة عمليّات القصف، فانتقلنا جميعًا إلى مستشفى الشفاء، على افتراض أنّنا سنكون آمنين هناك. ثمّ انتقلنا إلى شقّة استأجرناها في شارع عمر المختار. كانت زوجتي حاملًا وكان الوضع صعبًا جدًّا من جرّاء القصف والجوع.

في يوم الجمعة الموافق 5.1.24، في الساعة 12 ظهرًا، ذهبتُ إلى منزل والديّ لأخذ مصاغ زوجتي والنقود التي بقيت هناك، فالتقيتُ بثلاثة شبّان لا أعرفهم وذهبنا معًا للبحث عن طحين قرب ميدان الكويت، شرق حيّ تل الهوى. فجأةً، وكانت الساعة قرابة 13:30، سمعتُ صوت إطلاق نار، وإذ بأحد الشبّان يُصاب في رأسه ويسقط على الأرض. لقد قُتِل.

غطّى الجنود عينَيّ بملابسي، وقيّدوا يدَيّ إلى الشاحنة، وعلّقوني عليها حرفيًّا، ثمّ سارت بضع دقائق بينما كان رأسي يصطدم بها

أنا والشابّان الآخران بدأنا بالفرار من هناك، لكن عندها ظهرت دبّابة وسيّارة جيب عسكريّة في الشارع وأطلقتا النار علينا. أصبتُ برصاصة في رِجلي تحت الركبة وبأخرى في أسفل البطن. قُتِل شابّ آخر على الفور. فبقينا اثنين وتمكّنّا من الدخول إلى أنقاض مبنى كان قد تعرض للقصف والاختباء هناك. اختبأتُ أنا خلف عمود خرسانيّ، لأنّني لم أستطع المشي، وصعد الشابّ الآخر إلى الطابق الثاني. أخذ الجنود الذين في الدبّابة يطلقون النار علينا، ثمّ نزلوا منها وصعدوا إلى الطابق الثاني وأمسكوا بالشابّ. سمعتُهم يسألونه عن مكان وجودي، ثمّ أخذوه من هناك، لا أعرف إلى أين. بقيتُ هناك وحدي، أنزف، لمدّة أربع ساعات تقريبًا.

في المساء وصلت شاحنة ودبّابة وأطلق الجنود الذين في الدبّابة النار باتّجاهي، ثمّ تقدّم صوبي سيرًا نحو تسعة جنود. أمرني أحدهم، وكان يتحدّث العربيّة، بالنهوض. نهضتُ، لكن عدتُ وسقطت مرّة أخرى. جرّدوني من ملابسي تمامًا، وأخذوا مصاغ الذهب والفضّة والهاتف منّي. جاء جنديّ آخر، أعطاني هاتفًا وتحدّثت مع شخص سألني بالعربيّة من أيّ نفق خرجت. قلتُ له أنا مدنيّ ولم أخرج من أيّ نفق. بعد ذلك قال لي إنّه سيقابلني، واقترح عليّ ألّا أتحدّث مع الجنود حاليًّا لأنّهم قد يقتلونني.

غطّى الجنود عينَيّ بملابسي، وقيّدوا يدَيّ إلى الشاحنة، وعلّقوني عليها حرفيًّا، ثمّ سارت بضع دقائق بينما كان رأسي يصطدم بها. توقّفنا في مكان لا أعرفه. حلّ أحد الجنود الأصفاد البلاستيكيّة وسقطت على الأرض، وأزال العصابة عن عينَيّ، ثمّ أخذوني إلى خيمة التقيت فيها بضابط من "الشاباك". أمسك ببطاقة هويّتي وهاتفي. ثمّ رنّ هاتفي وكانت تلك أختي. طلبتُ منه أن يسمح لي بالتحدّث معها لتهدئتها وإخبارها بأنّني عند الجيش، لكنّه رفض. سألني من أيّ نفق خرجت، فقلتُ له أنا مدنيّ. شرع الجنود يضربونني بشدّة، وبدأتُ أنزف من جروح الرصاص. ثمّ جاء جنديّ آخر وضمّد جراحي.

أدخلوني بعد ذلك في دبّابة وأخذوني إلى مكان آخر. عندما وصلتُ إلى هناك أخرجوني ومدّدوني على شيء رائحته كريهة جدًّا لمدّة ثلاث دقائق تقريبًا. نزع الجنديّ العصابة عن عينَيّ، فرأيتُ أنّها جثّة متعفّنة. ثمّ أخذوني إلى ضابط آخر، وسألني هو أيضًا من أيّ نفق خرجت. فقلتُ له هو أيضًا بأنّني مدنيّ. صوّب الجنود أسلحتهم نحوي واعتقدت أنّهم سيطلقون النار عليّ، فتَلوتُ الشهادتين، ثمّ أطلق أحدهم النار على الأرض أمامي. غطّوا عينَيّ وتُركتُ مطروحًا في الخارج على أرض مرصوفة بالحصى، في البرد، حتّى منتصف الليل.

ألبسوني بعد ذلك ملابس شفّافة وبيضاء، كتلك التي كانت أثناء جائحة فيروس الكورونا، ثمّ أصعدوني إلى سيّارة جيب وسافرنا نحو نصف ساعة. أحضروني إلى مركز اعتقال في مكان لم أكن أعرفه، وعلمت فيما بعد أنّ اسمه "سديه تيمان". كان هناك جنديّ وجندّية، وكانوا يرتدون ثوب الأطبّاء فوق الزيّ العسكريّ. مدّدوني على سرير وكووا الجروح في رِجليّ وبطني دون تخدير، وكان ذلك مؤلمًا جدًّا، ثمّ ضمّدوها. بعد ذلك أخذوني إلى غرفة أخرى، حيث صوّروا جسمي ووجهي، وأخذوا منّي الأمانات ثمّ وضعوا لي سوارًا عليه رقم معتقل. أحضروا لي ألبسة داخليّة وملابس، وغطّوا عينَيّ بقطعة من القماش البرتقاليّ، وكتبوا شيئًا على ظهر قميصي – لا أعرف ما هو. أدخلوني إلى مبنى يشبه الحظيرة. طلبتُ أن أشرب ماء، فأعطوني.

نمتُ، لكن بعد نحو ساعة ونصف الساعة أيقظوني وأخبروني بأنّه ممنوع أن أنام الآن.

في الحظيرة كانوا يوقظوننا كلّ يوم في الساعة 4:00 فجرًا، ويرغموننا على الركوع وأعيننا معصوبة وأيدينا مكبّلة حتّى الساعة 11:00. بعد ذلك كان كما لو أنّه يُسمح لنا بالنوم، لكن كلّما نمنا كانوا يوقظوننا.

بعد خمسة أيّام أخذوني إلى غرفة شديدة البرودة شغّلوا فيها موسيقى ديسكو بصوت عالٍ جدًّا. جرّدوني من ملابسي وتركوني هناك لمدّة أربعة أيّام، لم يقدّموا لي خلالها سوى القليل من الماء للشرب وقطعة خبز كلّ يوم.

بعد أربعة أيّام أخذوني للتحقيق الذي كان أساسه الضرب والتعذيب: أطفأوا سجائر في فمي وعلى جسمي، وربطوا بخصيتي لاقطات كانت موصولة بشيء ثقيل. استمرّ الأمر على هذا النحو يومًا كاملًا.

بعد أربعة أيّام أخذوني للتحقيق الذي كان أساسه الضرب والتعذيب: أطفأوا سجائر في فمي وعلى جسمي، وربطوا بخصيتي لاقطات كانت موصولة بشيء ثقيل. استمرّ الأمر على هذا النحو يومًا كاملًا. تورّمت خصيتاي وكنت أنزف من أذني اليسرى. سُئلت عن قادة حماس وعن أشخاص لا أعرفهم ولم أقابلهم. سألوني أين كنت في يوم 7 تشرين الأوّل، وأجبت أنّني كنت في البيت ولم أخرج منه إلّا لإحضار الطعام لزوجتي. ضربوني. بعد ذلك أعادوني ثانيةً إلى الغرفة المجمّدة بالبرد ذات موسيقى الديسكو الصاخبة، وتركوني هناك عاريًا مرّة أخرى لمدّة يومين، ولم يقدّموا لي سوى القليل جدًّا من الخبز والماء.

بعد ذلك أخذوني مرّة أخرى إلى التحقيق. فتحوا الواتساب في هاتفي وسألوني عن جيران لي في المبنى الذي أسكن فيه وأين يعملون. أخبرتهم بأنّ بعضهم يعمل في وكالة أونروا أو الصليب الأحمر وبأنّ البعض الآخر لا أعرفه.

أخذوني من هناك إلى حظيرة أخرى أبقوني عاريًا فيها نحو 4-5 أيّام، وهناك أيضًا لم أحصل سوى على القليل من الطعام والشراب، وأجبروني على ارتداء حفّاض. بعد ذلك أخذوني للتحقيق مرّة أخرى. سألوني عن عملي وعن تجّار سيّارات تربطني بهم علاقات عمل. خلال التحقيق عرضوا أمامي فيديو وأخبروني بأنّ هؤلاء الأشخاص أعضاء في الجهاد الإسلاميّ. قلتُ لهم إنّني لا أعرفهم. خلال التحقيق صعقوني بالكهرباء وضربوني بشدّة لدرجة أنّني فقدت الوعي. تورّمت كفّة قدمي من الصدمات الكهربائيّة. عندما استعدت وعيي طلبتُ منهم أن يضمّدوها، ففعلوا. استمرّ التحقيق ثمّ أخذوني ثانيةً إلى غرفة الديسكو وتركوني هناك لمدّة ثلاثة أيّام. عندما طلبتُ من الجنديّ الذي كان يراقبني أن أذهب إلى المرحاض أحضر لي وعاء وطلب منّي أن أتبوّل فيه. تفاقمت في جسمي جروح ونزيف وآلام، وخاصّة في رِجلي اليسرى التي عانيتُ فيها من نزيف وجروح قيحيّة سبّبتْ لي آلامًا شديدة. ازرقّت رِجلي وكادت تصاب بالنخر.

تركوني في الحظيرة لمدّة خمسة أيّام، ثمّ أجروا لي عمليّة جراحيّة في رِجلي اليسرى المتورّمة، من دون تخدير. طلبتُ أن يعطوني موادّ مخدّرة، فأجابوني بأنّني لستُ في وضع يَسمح لي بطلب أيّ شيء، وأمروني بالصمت. عندما صرختُ من الأوجاع، ضربوني على بطني بعصا بلاستيكيّة حتّى التزمتُ الصمت. أخرجوا القيح من رِجلي.

نقلوني بعد ذلك إلى الحظيرة ثانيةً، وفيها أجبروني على الركوع كلّ يوم لمدّة أسبوعين وأنا مقيّد اليدين ومعصوب العينين. كنّا نتلقّى الطعام ثلاث مرّات في اليوم: جبنة، مربّى وتونة وأربع شرائح من الخبز. بدّلوا لي الضمادة التي كانت على رِجلي مرّة واحدة فقط. كنّا نستحمّ مرّة واحدة في الأسبوع، وحصلنا على ألبسة داخليّة نظيفة مرّة واحدة فقط خلال هذه الفترة.

عرضوا عليّ أن أعمل مع الجيش فرفضت. قال لي أحد الضبّاط أو الجنود إنّه يعزّيني بوفاة أبي وأمّي وعائلتي وزوجتي، فأصبتُ حينها بانهيار عصبيّ وفقدتُ الوعي.
 

عرضوا عليّ أن أعمل مع الجيش فرفضت. قال لي أحد الضبّاط أو الجنود إنّه يعزّيني بوفاة أبي وأمّي وعائلتي وزوجتي، فأصبتُ حينها بانهيار عصبيّ وفقدتُ الوعي. بعد ذلك سألوني إذا كنت أتحدّث الإنجليزيّة وعرضوا عليّ أن أكون شاويش – الرجل الذي يكون حلقة وصل بين الجنود والأسرى الآخرين، فوافقت على ذلك.

بعد ستّة أيّام جاء طبيب وناداني أنا وخمسة أشخاص آخرين. سألني إن كنت قادرًا على السير مسافة كيلومترين، فأجبتُ نعم. طلب منّي أن أسير أمامه نحو عشرة أمتار، ثمّ قال لي إنّ هذا جيّد، وطلب منّي أن أعود إلى مكاني، دون أن يوضّح لي أيّ شيء.

في 25.2.24 عند الساعة الثالثة فجرًا نادوا عليّ. أصعدوني مع معتقلين آخرين إلى حافلة سافرت وقتًا طويلًا. وصلنا إلى معبر كرم أبو سالم وهناك أخبرنا الجنود بأنّه ممنوع علينا أن نتحدّث مع وسائل الإعلام عن التعذيب الذي تعرّضنا له. أعطونا كيسًا فيه الأمانات خاصّتنا، لكن لم أجد في كيسي النقود والمصاغ وهاتفي، وإنّما شاحن الهاتف وبطاقة اللاجئ من الأونروا وبطاقة الهويّة فقط. قلتُ للجنديّ إنّني أريد أشيائي، فقال لي لن تحصل على أيّ شيء، وإذا تحدّثتُ عن ذلك فسيعتقلونني ثانية.

ذهبنا إلى الجانب الفلسطينيّ من المعبر وكان موظّفو الأونروا ينتظروننا هناك. اتّصلتُ بعائلتي في شمال غزّة وصدموا عندما سمعوا صوتي. كانوا على يقين بأنّني قُتلت. تأثّر أبي وأمّي كثيرًا، لدرجة أنّهما خاطرا بحياتهما من أجل القدوم إلى رفح ليكونا معي. وصلا إلى الحاجز بعربة، وقطعوا المسافة من هناك مشيًا على الأقدام. أخبراني بأنّ زوجتي أنجبت طفلتنا عندما كنتُ في السجن، وبأنّها عانت من سوء التغذية بسبب المجاعة في شمال قطاع، وبأنّ طفلتنا عندما ولدت كان وزنها 2 كيلوغرام.

أقمتُ أنا ووالداي في خيمة في رفح إلى أن اقتحم الجيش المنطقة. نحن الآن في خيمة متهالكة في دير البلح. الظروف هنا رديئة للغاية. أنا على تواصل هاتفيّ مع زوجتي التي تتنقّل مع الطفلة من مكان إلى آخر بسبب القصف.

- سجّلت الإفادة، هاتفيًّا، باحثة بتسيلم الميدانيّة ألفت الكرد في 23.6.24.