عبد الناصر فروانة/ مؤسسة الدراسات الفلسطينية - 14/08/2023
اعتمدت دولة الاحتلال الإسرائيلي الاعتقال وسيلةً للقمع والتعذيب والعقاب الجماعي لقهر الفلسطينيين والسيطرة عليهم، فطال كافة فئات وشرائح المجتمع الفلسطيني، حتى أضحى الاعتقال، بأشكاله المختلفة، سلوكاً ممنهجاً وظاهرة يومية في إطار سياسة إسرائيلية ثابتة في تعامُلها مع الشعب الفلسطيني.
ولم تكتفِ بما يلحق بالعدد الكبير من المعتقلين من أذى وضرر جسدي ونفسي، جرّاء ظروف الاحتجاز القاسية وما يُمارَس بحقهم من تعذيب وإهمال طبي وغيره من ضروب المعاملة السيئة، بل لجأت كذلك وبشكل ممنهج إلى عدم توفير حاجات المعتقلين الأساسية من ملبس ومأكل ومشرب وأغطية وعلاج، وحرمانهم من تلقي ما يسد حاجاتهم عن طريق الأهل أو المؤسسات المختصة، إلا ما ندر. واستمرت في تنصّلها من تحمل أعباء سجنهم، بما يخالف القانون الدولي بشكل صارخ، ولا سيما المواد (25-26-27) من اتفاقية جنيف الثالثة، و(85-89-90) من اتفاقية جنيف الرابعة.
الكانتينا: بين الحاجة الإنسانية وتمويل السجّان
خاض الأسرى إضرابات عن الطعام وإرجاع وجبات الطعام مرات عديدة، بسبب سوء وجبة الطعام، أو لعدم توفّر القهوة، ورداءة الشاي، أو بسبب خفض عدد حبات الزيتون وعدم إحضار ملح الطعام. وناضلوا طويلاً من أجل السماح لهم بشراء جزء من حاجاتهم من مقصف السجن "الكانتينا". وكنتاج لنضالهم وإضراباتهم عن الطعام، سُمح لهم بالشراء من مقصف السجن أخيراً، من دون أن تعود الأرباح إلى الأسرى، وفقاً لاتفاقيتيْ جنيف، لكنهم اعتبروا ذلك إنجازاً، وكان ذلك في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
أما الآن، فالأمر تغيّر، وتحول هذا الإنجاز، بالتدريج، إلى عبء اقتصادي يرهق عائلات الأسرى ويستنزف أموالهم، ويثقل كاهل السلطة الفلسطينية، إذ لم يقتصر الأمر على جني إدارة السجون الأرباح من بيع بعض السلع الاستهلاكية، بل امتد وتوسّع، فأصبح الأسرى مجبرين على شراء كافة حاجاتهم من الكانتينا، بدلاً من توفير بعض حاجاتهم الأساسية، كما أريدَ منها في بداية إنشائها.
تحتوي الكانتينا اليوم على سلع متنوعة وأصناف كثيرة جداً من المواد الغذائية والزيوت والخضروات واللحوم والأسماك والمشروبات والألبان والمكسرات والملابس والأحذية والصابون ومواد التنظيف، وبعض الأجهزة الكهربائية والسجائر.. إلخ، وصار الأسرى يعتمدون عليها بشكل كلي، ويشترون منها، ليس ما يحتاجون إليه فقط، بل أيضاً ما كانت إدارة السجون تقدمه لهم في السابق!
فإدارة السجون قلصت موازناتها، وتوقفت عن تقديم الملابس، وتراجعت عن توفير السجائر، ولم تعد توفّر من الأكل والماء إلا ما يُعتبر أساسياً، وبكميات غير كافية، وكذلك بالنسبة إلى مواد التنظيف. فعلى سبيل المثال، كانت إدارة السجن في الماضي توفر كافة أدوات ومستلزمات النظافة من صابون وشامبو وسائل جلي ومعجون وفرشاة أسنان وشفرات ومعجون الحلاقة ومكنسة وما شابه، أما اليوم، واستناداً إلى تواصُلنا مع الأسرى قبل أيام، فإن الإدارة تخصص مبلغ 400 شيكل شهرياً فقط لكل قسم، ويحتوي القسم على 12غرفة، وفي كل غرفة 8 أسرى. أي يخصَّص هذا المبلغ لـ96 أسيراً شهرياً. وتطلب إدارة السجون من الأسرى اختيار ما يريدون شراءه من الكانتينا في ذلك الشهر بما يُعادل المبلغ المحدد، وعادةً، هو لا يكفي لسد حاجاتهم، فتضطر كل غرفة إلى إضافة مبالغ لتغطية حاجاتها.
وعادةً ما تقدم إدارة السجون لكل قسم 4 كلغ من القهوة شهرياً، و300 كيس من الشاي، (أي 3 أكياس شاي لكل أسير شهرياً)، أما السكر فتقدم 7 كلغ شهرياً (أي 72 غراماً لكل أسير). أما بخصوص اللحوم، فتبلغ حصة الأسير الواحد 40 غراماً من لحم العجل، ونصف فخذ من الدجاج، و30 غراماً من لحم الحبش أسبوعياً. ويبلغ نصيب الأسير الواحد من الخضار قرابة 4 كلغ أسبوعياً، وهذا لا يكفي لسد حاجاتهم من الطعام.
مكّن وجود الـ "كانتينا" إسرائيل من احتجاز أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين بأقل ما يمكن من التكلفة المالية، مع توفير إمكانية الحصول على كافة الحاجات لقاء مقابل مادي. هذه الحال ميّعت إمكانية حدوث انتفاضة أو صدام جدي بين الأسرى والسجّان، ولا سيما أن الوفرة المادية والبحبوحة النسبية "تطفئ" أسباب المواجهة المباشرة وتميّعها، كما يصفها الأسير وليد دقة في كتابه "صهر الوعي". وعلاوة على ذلك، إن حالة "البحبوحة" النسبية، وضخ الأموال إلى السجون من الخارج بشكل غير مسبوق قاد إلى بروز الملكية الخاصة، على مستوى التنظيمات والأفراد، وخلق طبقات من الأغنياء والفقراء، واستخدام المال كأداة للتأثير والاستقطاب الداخلي، وأصبح ما كان مستحيلاً، في عُرف الحركة الأسيرة في الماضي، "عادياً" ومسلّماً به اليوم.
صرف المخصصات.. حق وواجب مستحق
إن ما تنفقه السلطة الفلسطينية على الأسرى وذويهم، مهما بلغ، ليس بجُرم مُقترف، كما تحاول إسرائيل توصيفه وتجريم كفاح الأسرى، أو خلل في الإنفاق، كما يعتقد البعض، ولا يُنظر إليه فلسطينياً على أنه عبء على السلطة، فهو حق مشروع لهم وواجب مستحق تجاههم. لكن الخلل، الذي يرقى إلى الخطر، يتمثل في أن يُصرف جزء كبير من هذه المبالغ على الأسرى داخل السجون، إذ بتنا نموّل ثمن سجنهم، وأصبحت تكلفة معيشة الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين أنفسهم، وهذا أمر خطِر جداً، إذ لم تعد الاعتقالات أو استمرار احتجاز الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين، مشاريع خاسرة، بل أصبح الاحتجاز مشروعاً مربحاً للاحتلال.
إن الأسرى الفلسطينيين، في اعتقادنا، هم الأسرى الوحيدون في تاريخ حركات التحرر الذين لهم مؤسسة رسمية تُعنى بشؤونهم (هيئة شؤون الأسرى والمحررين-وزارة الأسرى سابقاً)، ويتلقّون منها مخصصات شهرية منتظمة، تكفل لأسرهم مستوى لائقاً من الحياة الكريمة، وتغطي مصاريفهم داخل السجن، وتوفر لهم بعض الإمكانات المادية للتخفيف من معاناتهم، وتعوضهم عما يحرمهم منه السجّان. ويُقدَّر متوسط ما يُصرف للأسرى وذويهم من مخصصات وكانتينا بـ17 مليون شيكل شهرياً، مع الإشارة إلى وجود نحو 5000 أسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وفقاً لآخر الإحصائيات الرسمية.
وأنا هنا لست ضد أن يُدفع للأسرى في السجون لشراء بعض المواد الاستهلاكية من الكانتينا، حتى ولو وفّرت سلطات الاحتلال كافة حاجاتهم داخل السجن، لكن يجب ألا يكون بديلاً منها. تستمر السلطة الوطنية الفلسطينية في صرف مخصصات الأسرى الشهرية من دون انقطاع، وهذا يُحسب لها، تقديراً لمعاناتهم، ووفاءً لنضالاتهم وتضحياتهم، على الرغم من اقتطاع إسرائيل ما يوازي ما تصرفه السلطة الفلسطينية لعوائل الشهداء والأسرى من أموال الضرائب "المقاصة" الخاصة بالفلسطينيين، وهو ما تسبب بأزمة مالية خانقة للسلطة، وجعلها غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه موظفي القطاع العام.
وفي كلمته في مستهل جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 9/1/2023، كشف رئيس الوزراء محمد اشتية أن "مجموع الاقتطاعات المتعلقة بمخصصات الأسرى والشهداء بلغ حوالي ملياري شيكل منذ بداية سنة 2019 حتى نهاية 2022."[1]
يُشار إلى أن السلطة تودع شهرياً 400 شيكل لكل أسير في حساب الـ "كانتينا"، بينما يتلقى الأسير مبالغ إضافية من عائلته، تتفاوت من أسير إلى آخر، وتتراوح ما بين 800 و1700 شيكل للغاية ذاتها.
خصخصة السجون الإسرائيلية
أعتقد أن ما يحدث اليوم، له علاقة مباشرة بفكرة "خصخصة السجون" التي نُوقشت في الأوساط السياسية الإسرائيلية في بداية تسعينيات القرن الماضي من دون إقرار قانون خاص بها، وفي شهر آذار/مارس 2004، أقرّ الكنيست الإسرائيلي الـسادس عشر، رسمياً، قانوناً يجيز بناء وإدارة سجون خاصة، وذلك بتصحيح للأمر رقم 28 الخاص بالسجون 2004-5764، إذ تمت إضافة البند ج2 إلى أنظمة السجون المعمول بها في دولة الاحتلال، وبموجبه، كان سيتم تحويل كافة السجون من القطاع العام إلى القطاع الخاص.
وقد نُشرت المناقصة الأولى لخصخصة السجن الأول في دولة الاحتلال سنة 2005، والتي رست على شركة تابعة للملياردير الإسرائيلي ليف ليفاييف، وأُنجزت المناقصة بالكامل بعد أن حصلت سابقاً على الضوء الأخضر من الحكومة، وكان من المتوقع أن يشهد نيسان/ أبريل 2009 افتتاح السجن المذكور في منطقة بالقرب من بئر السبع، ويشمل 800 سرير كجزء من التجربة الجديدة،[2] إلا إن المحكمة العليا الإسرائيلية، وبعد خمسة أعوام على قرار الكنيست، اتخذت قراراً في 19/11/2009، بأغلبية 8 من أعضاء الهيئة القضائية التسعة، برئاسة القاضية دوريتبينش، يقضي بإلغاء التعديل القانوني الذي أجراه الكنيست على أنظمة السجون سنة 2004، وبالتالي إلغاء قانون خصخصة السجون الذي يسمح بإنشاء سجون تديرها شركات خاصة، وعدم السماح بافتتاح سجن شُيّد حديثاً في بئر السبع لهذا الغرض.[3]
الأسرى يدفعون ثمن إقامتهم
توفر إدارة السجون كميات رمزية من المواد التي يحتاج إليها الأسرى، بينما أصبح احتجاز الأسير الفلسطيني في السجون الإسرائيلية على حساب السلطة الوطنية الفلسطينية، كما يقول الأسير وليد دقة في كتابه "صهر الوعي". فقد أصبح كثير من الأشياء على حساب الأسرى، ولم يتبقَّ سوى الكهرباء والمياه، والتي تُقطع ليلاً أحياناً، لكن قد يُجبَر الأسرى على دفع ثمنها قريباً. ففي سنوات سابقة، هددت إدارة السجون بتحديد كمية الكهرباء والمياه المقدمة لهم، وإنها ستقتطع ثمن الكمية المستهلكة الإضافية من الرصيد المالي الخاص بهم، بينما كان هناك دعوات إسرائيلية وخطوات فعلية وجزئية قبل بضعة أشهر لتقليص كمية مياه الاستحمام وتحديد وقت استهلاكها، الأمر الذي أثار موجة من الاحتجاجات داخل السجون، وهو ما دفع إدارة السجون إلى التراجع.
لقد بات الأسرى–رغماً عنهم-يشبهون نزلاء الفنادق، يعيشون على نفقتهم الخاصة، بأسعار باهظة الثمن، ويتلقون معاملة سيئة.
ارتفاع الأسعار واستخدام الكانتينا وسيلة للعقاب
لقد اشتكى الأسرى في الآونة الأخيرة من زيادة أسعار السلع المعروضة في مقاصف السجون بشكل لافت. وأعربوا عن تذمّرهم من استغلال إدارة السجون لحاجتهم إلى تلك السلع. وفي المقابل، ترفض إدارة السجون إدخال السلع الاستهلاكية، أو حتى الحاجات الأساسية، عبر الأهل أو المؤسسات الرسمية، بما فيها الأغطية والملابس والأحذية، وفي الوقت ذاته، هي توفرها بجودة أقل في مقصف السجن وتدفعهم، مجبرين، إلى شرائها بالأسعار التي تحددها هي.
لقد تحولت السجون إلى أسواق تجارية ومواقع لجني الأرباح لصالح مصلحة السجون، يُجبَر فيها الأسرى والمعتقلون على شراء ما يُعرض عليهم، وبأسعار باهظة الثمن. فالأسرى يطلبون البضائع، لكن الإدارة هي مَن يحدد المسموح به والممنوع، والشركة هي مَن تحدد النوعية والجودة، فعلى سبيل المثال، قد يطلب الأسرى أغطية، لكن الشركة تأتي بأغطية رديئة بأسعار باهظة، فيضطر الأسرى إلى شرائها. إلى جانب ما تجنيه. وشركة ددش هي المزود المعتمد للكانتينا، بالاتفاق مع مصلحة السجون، وهي شريكة في الاتفاق الخاص بالكانتينا بين مصلحة السجون والسلطة الفلسطينية بشأن تحويل الـ400 شيكل شهرياً لكل أسير وسجين فلسطيني. وهناك شركات أُخرى تابعة تتبدل باستمرار، وهي مسؤولة عن تزويد الكانتينا بالخضروات والألبان والفاكهة واللحوم المفرزة وغيرها. وتتقاضى إدارة السجون 7% من أثمان المباع في الكانتينا، وهو مبلغ لا يقل في محصلته عن 5 ملايين شيكل سنوياً، وخصوصاً أن القيمة الإجمالية لِما يباع في الكانتينا في جميع السجون تتجاوز في حدها الأدنى فقط 72 مليون شيكل سنوياً. ويضاف إلى الأسعار ما يُعرف بخدمة التوصيل، أي ما يشبه إيصال الخدمات إلى المنازل، وكل ذلك يُضاف إلى أسعار السلع، وتكون على حساب الأسرى.
وعلى سبيل المثال، تتراوح أسعار الأحذية الرياضية ما بين 300 و700 شيكل، والغطاء الشتوي 130 شيكلاً، وهو سيئ وخفيف، ولا يتجاوز وزنه الكيلوغرام، أما أرخص علبة سجائر (NOBLESSE) فتباع بـ 30 شيكلاً، وكرتونة التمر 5 كلغ بـ 224 شيكلاً.[4]
ووفقاً للاتفاقية المبرمة مع الشركات الإسرائيلية، فإن الشركة الرئيسية "ددش" تزود السجون بالسلع الأساسية والكماليات، بدءاً من أنواع المعلبات المختلفة، والأرز، والزيت، والقهوة، والسجائر، مروراً بالمكسرات والكورن فليكس، وصولاً إلى الماركات المشهورة للألبسة والأحذية الرياضية، بالإضافة إلى الصابون ومواد التنظيف وبعض الأجهزة الكهربائية. بينما تزود إحدى الشركات الأُخرى التي رست عليها المناقصة، كشركة تنوفا أو تارة، المقاصف بأنواع اللحوم والخضار والفاكهة والألبان.
على الرغم من كل ما سُقناه آنفاً، وما تُجبيه وتجنيه الشركات الإسرائيلية وسلطات الاحتلال من أموال وأرباح من السلع المُباعة للأسرى والمعتقلين، إلا إن إدارة السجون تحاول استخدام الكانتينا كوسيلة للعقاب تارةً، وللضغط والابتزاز تارةً أُخرى. فتجد أن إدارة السجون تفرض أحياناً قيوداً على إدخال الأموال من العائلة، وتشترط ألا يزيد المبلغ عن 1700 شيكل شهرياً، وأحياناً أُخرى تُغلَق الحسابات ويُمنع الأسرى من إدخال الأموال إلى حساباتهم الخاصة بالكانتينا، وهو ما يحرمهم من شراء ما يسد حاجاتهم.
فرض الغرامات المالية
لم تكتفِ المحاكم العسكرية بفرض أحكامها الخيالية على الأسرى الفلسطينيين، ولم يعد مستغرباً أن يُحكم على أسير بالسجن المؤبد (مدى الحياة) وغرامة مالية باهظة، أو أن يُفرض السجن فقط ولسنوات على الأطفال القصّر، إنما صعّدت إسرائيل في العقدين الأخيرين سياسة فرض الغرامات المالية بحق المعتقلين الجدد، وأصبح سلوكاً ثابتاً، وكابوساً لعائلات الأسرى، إذ إن أغلب الأحكام الصادرة بحق الأسرى، تُضاف إليها غرامات مالية تكون دائماً مرتفعة.
ويمكن الجزم هنا أن جميع الأحكام الصادرة بحق الأطفال المعتقلين تكون مقرونة بفرض غرامات مالية مرتفعة، وواجبة الدفع خلال فترة معينة، وإلا تحولت إلى أشهر أو سنوات من السجن الفعلي. و"يصل متوسط ما تفرضه محاكم الاحتلال العسكرية من غرامات على الفلسطينيين سنوياً إلى نحو 15 مليون شيكل، وهذا المبلغ يحوَّل مباشرة لتمويل المحاكم العسكرية الإسرائيلية والجيش وإدارة السجون، أي أن الفلسطينيين يدفعون تكاليف جلّاديهم ومحتليهم من أموالهم قسراً،"[5] وهذا يشكل استنزافاً مالياً وعبئاً اقتصادياً وإرهاقاً نفسياً وعقوبة جماعية للأسرى وعائلاتهم. فعلى سبيل المثال، لم يكن أمام عائلة الأسيرة المحررة فداء الشيباني خياراً سوى الخضوع لقرار الاحتلال الإسرائيلي ودفع غرامة مالية تقدّر بـ 20000 دولار تقريباً للإفراج عن ابنتهم وتقليص مدة السجن.[6]
وهناك نوع آخر من الغرامات المستحدثة في السجون، منها فرض غرامات مالية لأتفه الأسباب، بحجة ارتكاب مخالفات، والتي لا تستثني أي شريحة من شرائح الأسرى، بما فيها الأسيرات والأطفال، مثل التأخر في الوقوف للعد، أو المشادة الكلامية مع السجانين أو أفراد الشرطة، ورفض التفتيش العاري، وقراءة البيانات والاحتفال بصوت جهوري، والعثور على هاتف نقال، أو مواد محظورة، في أثناء الاقتحامات والتفتيشات. وعادةً ما تتم جباية الغرامات واستقطاعها من الأموال التي يدفعها الأهل والسلطة الفلسطينية لحسابات الأسرى في "الكانتينا"، وإذا كان الحساب فارغاً، يتم الخصم بمجرد دخول أموال إليه، أو يُخصم من حساب مسؤول التنظيم الذي ينتمي إليه الأسير.[7]
وتتراوح قيمة الغرامة المفروضة على الأسير بادعاء ارتكاب مخالفات ما بين 200 و5000 شيكل. وأحياناً، تُفرض الغرامة بشكل جماعي على جميع الأسرى في الغرفة الواحدة، وفي أحيان أُخرى، يتم تحميل الأسرى تكاليف ما لحق بالغرف والأقسام من خراب ناتج من عمليات الاقتحام,[8] هذا بالإضافة إلى فرض الغرامة بشكل فردي أو جماعي بحق أسرى قرروا خوض الإضراب عن الطعام، احتجاجاً على سوء الأوضاع داخل السجن.
وخلال حديثي مع الأسير المحرر جهاد غبن، في إطار صفقة "وفاء الأحرار"، قال: أن كثيراً ما فرضت إدارة السجن غرامات مالية بحق الأسرى، إلى جانب عقوبة الزنازين والحرمان من الزيارات. وأنه ذات مرة، فُرضت عليه عقوبة شهر في الزنازين وحرمان من الزيارة لمدة شهرين، بالإضافة إلى غرامة مالية (100 شيكل) بسبب مشادة كلامية مع أحد أفراد الشرطة.
العلاج والدواء على نفقة الأسرى
لم يكن القرار الإسرائيلي الذي اتخذه وزير الأمن القومي "بن غفير" وحكومته المتطرفة، قبل شهر ونيف تقريباً، بإجبار الأسير على الدفع المسبق لقيمة مراجعة عيادة الأسنان، الأول من نوعه، إذ سبق أن حمّلت إدارة السجون الإسرائيلية الأسرى الفلسطينيين تكاليف علاج الأسنان وأدوية وما شابه.[9] أما القرار الجديد، فهو الدفع المسبق لزيارة طبيب الأسنان، مع تحديد وقت الجلسة، لكنه لم يطبَّق بعد.
وكانت إدارة السجون حددت قبل شهر ونصف مبلغ 175 شيكلاً عن كل ساعة علاج في عيادة الأسنان التابعة للسجن أو المعتقل، على أن تحدَّد المدة من خلال الطبيب المعالج والمتابع لحالة الأسير، وتُخصم قيمة الوقت من "الكانتينا" الخاصة به مقدماً، ولا يُسمح للطبيب بتجاوز الوقت المحدد، وفقاً لبيان هيئة شؤون الأسرى والمحررين.[10]
وترفض إدارة السجون، منذ سنوات طويلة، تقديم العلاج لمرضى الأسنان من الأسرى، إلا البسيط منها، وتفرض عليهم العلاج على نفقتهم الخاصة، وهو ما يكلفهم أموالاً طائلة، ومنهم من لا يتمكن من توفيرها، فيعيشون مع الألم. وفي مرات عديدة، سُمح بإدخال طبيب على نفقة الأسير للكشف على المريض، بشرط أن يكون من الداخل. وحين يكتب الطبيب الوصفة الطبية يعطيها الأسير لإدارة السجن، فتشتريها له، ثم تجبي ثمنها من الأسير نفسه. واليوم، هناك طبيبا أسنان يتابعان الأسرى، ويقومان بزيارة السجن مرة كل أسبوع، أو كل أسبوعين. وهناك نحو 100 ملف في سجن نفحة وحده على طاولة طبيب الأسنان لأسرى يعانون وجع الأسنان، وتتحمل السلطة الفلسطينية تغطية هذه النفقات المالية الإضافية وتدفع مبالغ طائلة.
وفي شباط/فبراير الماضي، صادق الكنيست الإسرائيلي بالقراءة التمهيدية على قانون يحرم الأسير الحصول على تمويل من الحكومة الإسرائيلية للعلاج الطبي الذي يتجاوز الرعاية الطبية الأساسية، ويهدف إلى تحسين جودة الحياة، بما في ذلك الأدوية غير المشمولة في سلة الخدمات الصحية. وقد يكون هذا مقدمة للسماح للأسرى لاحقاً بتلقّي الخدمة ذاتها، لكن على نفقتهم الخاصة.
تجربة أسير
في منتصف حزيران/يونيو الماضي، تحرر مراد أبو معيلق (45 عاماً) من سجنه، بعد 22 عاماً، ويقول للجزيرة نت "لا يخرج أي أسير من سجون الاحتلال إلا محملاً بمرض أو أمراض عدة." ويحكي أبو معيلق، الذي يعالَج حالياً من التهابات حادة في الأمعاء جرّاء الإهمال الطبي داخل السجون، عن تجربته الخاصة مع القرصنة الإسرائيلية، إذ أجبرته إدارة السجن على دفع نحو 700 شيكل (193 دولاراً) ثمن مشدّ للظهر، بعد خضوعه لعملية جراحية في أثناء اعتقاله .وشبّه اضطرار الأسير إلى مراجعة عيادة الأسنان في السجون بخوض رحلة مرعبة إلى المجهول، وضرب مثلاً بالأسير الشهيد نعيم شوامرة، الذي كان شاباً رياضياً، يشاركه الغرفة نفسها داخل السجن، لكنه عاد من العيادة ليفقد النطق بالتدريج، إلى أن تدهورت حالته الصحية، واستشهد بعد أشهر قليلة من تحرُّره.
وأكد أبو معيلق أن النماذج متكررة لأسرى تدهورت أوضاعهم الصحية بعد مراجعتهم عيادة الأسنان، وقال إنه شخصياً، خشي من العودة إليها لمتابعة كسر في أحد أسنانه ناتج من العلاج، وفي رأيه، أطباء السجون جزء من منظومة التعذيب الإسرائيلية، يشاركون في حملات القمع ضد الأسرى، ويُخضعون الأسير المريض لتجارب طبية. واستذكر حادثة ضرب طبيب إسرائيلي لأسير بجهاز الاتصال اللاسلكي في وجهه، قبل مباشرة علاجه من جروح أصابته خلال عملية قمع، وقال "الاحتلال يتعمد نشر الأمراض، وممارسة سياسة التعذيب والموت البطيء ضد الأسرى."[11]
الهواتف المهربة: أسعار خيالية
بما أن أفراد عائلات الأسرى الفلسطينيين، في أغلبيتهم، ممنوعون من زيارة أبنائهم في السجون، وأن الزيارات للمسموح لهم بها غير منتظمة، والأسرى الفلسطينيون محرومون من التواصل الهاتفي مع أفراد أُسرهم، يلجأ الأسرى إلى بدائل، منها شراء أجهزة الهواتف النقالة وتهريبها بشكل يُعتبر غير قانوني. وعلى الرغم من الأسعار الخيالية لهذه الأجهزة في السجن، فإنها تعالج جزءاً من المشكلة. ويتفاوت سعر الجهاز الواحد-بحسب مواصفاته-ما بين 20000 و50000 شيكل. وفي حال اقتحامات الأقسام ومداهمة الغرف وتفتيشها، والعثور على هاتف نقال، لا تكتفي إدارة السجن بمصادرة الجهاز، بل تفرض أيضاً غرامة مالية على كل أسير مقيم بالغرفة التي ضُبط فيها جهاز الهاتف. ويسعى الأسرى لإخفاء هذه الهواتف لاستخدامها أطول فترة ممكنة، وعدم مصادرتها. ويقول لي جهاد غبن، أحد الأسرى المحررين: في ذات مرة اقتحموا الغرفة، فعثروا على جهاز هاتف نقال، وفرضوا غرامة مالية قدرها 350 شيكلاً على كل أسير في الغرفة، وعددهم عشرة أسرى، على الرغم من تبليغه الإدارة أن الجهاز ملكه الشخصي، ولا علاقة للآخرين في الغرفة به.
وقد تطور الأمر في السنوات الأخيرة إلى ما هو أخطر من فرض عقوبات وغرامة مالية، حين فُرضت عقوبة السجن على فلسطينيين حاولوا تهريب الأجهزة من الخارج، معتبرةً ذلك مخالفة جنائية يعاقب عليها القانون الإسرائيلي. وعلى سبيل المثال: اتُّهم الأسير وليد دقة بتهريب هواتف نقالة إلى داخل السجن في أثناء زيارة النائب العربي في الكنيست عن القائمة المشتركة "باسل غطاس"، فحُكم عليه بعامين إضافيين، بينما أصدرت محكمة الصلح في بئر السبع في نيسان/أبريل 2017 حكماً بالسجن لمدة عامين بحق النائب العربي "غطاس"، الذي أمضاها كاملة، بتهمة تهريب هواتف نقالة للأسرى.[12]
خاتمة
ما أوردناه آنفاً، يُعتبر غيضاً من فيض، إذ لا زالت هناك حاجة إلى بحث منفصل، وخصوصاً أن استمرار هذه الحال يعفي سلطات الاحتلال من مسؤولياتها عن توفير حاجات الأسرى الأساسية، وتحويل السجون إلى ميادين للاستثمار وجني الأرباح، الأمر الذي يدفعها إلى التمسك باحتجاز الأسرى، وتوسيع نطاق الاعتقالات، ورفع أعداد المعتقلين، ما دامت لا تشكل عبئاً اقتصادياً عليها، بل فرصة استثمارية تتنافس الشركات الإسرائيلية الخاصة لإدارة المقاصف فيها لجني مزيد من الأرباح.
الأمر الذي يستوجب من الكل الفلسطيني، وفي مقدمتهم الأسرى، إعادة تقييم وتقويم مسيرة التعامل مع "الكانتينا"، بما يكفل إيجاد حل خلاق لجذور المشكلة، وإيجاد آلية جديدة للتعامل مع الخدمات المقدمة للأسرى والمعتقلين من إدارة السجون، وتضمن توفير حاجاتهم، وتنقل تكاليف المعيشة إلى ملعب الاحتلال الإسرائيلي، وفقاً لاتفاقيتيْ جنيف الثالثة والرابعة، اللتين تُلزمان إدارة السجون الإسرائيلية بتوفير كميات كافية من الغذاء والطعام، بما يحمي حياة الأسرى ويقيهم من الإصابة بالأمراض، وملزمة أيضاً بتوفير الملابس والأحذية، ومجمل حاجاتهم الأساسية، بالإضافة إلى العلاج وأدوات التنظيف وغيرها. وعلى المجتمع الدولي تحمُّل مسؤولياته، وإلزام سلطات الاحتلال بتوفير حاجات الأسرى، كمّاً ونوعاً، والتدخل لضمان توفير الحماية للأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والتي باتت ضرورة ملحة.
[1] "احتلال ينهب المال.. الاقتطاعات الإسرائيلية تكبد الفلسطينيين خسائر بمليارات الدولارات"، الجزيرة نت.
[2] انظر الرابط الإلكتروني.
[3] انظر الرابط الإلكتروني.
[4] مجموعة من المقابلات مع أسرى سابقين وأسرى في سجون الاحتلال.
[5] تقرير هيئة الأسرى والمؤسسات.
[7] مقابلة مع الأسير المحرر (ج.غ) من غزة.
[8] تقرير هيئة الأسرى...، مصدر سبق ذكره.
[9] مقابلات مع أسرى محررين.
[10] انظر الرابط الإلكتروني.
[12] انظر الرابط الإلكتروني.
عبد الناصر عوني فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة. ولديه موقع شخصي اسمه: فلسطين خلف القضبان.