ضياء الكحلوت (38 عامًا)، أب لخمسة، صحفيّ، من سكّان مدينة غزّة

  

بتسيلم -15/6/2024

أنا صحفي وأدير مكتب صحيفة "العربي الجديد" في غزّة. كنت أقيم في حيّ الكرامة، في الجزء الغربي من مدينة غزّة، مع زوجتي وأولادنا الخمسة: ندى (17 عاماً) وحمزة (15 عاماً) وعلي (13 عاماً) وملاك (10 سنوات) وشام (3 سنوات).

في صباح يوم 7 أكتوبر استيقظت على دويّ قصف وصُراخ ابنتي ندى (17 عاماً) - وهي مُعاقة عقب إصابتها بشلل دماغيّ - حيث طرقت الباب وهي تصرخ مرعوبة "صواريخ! صواريخ!".

شغّلت جهاز التلفزيون ورُحت أتابع الأخبار. في ذلك المساء أطلق الجيش الإسرائيليّ صاروخاً على قطعة أرض خالية تفصل بين منزلنا ومنازل الجيران وألحق بمنزلنا أضراراً بالغة، من ضمنها تدمير أنابيب المياه.

ضياء الكحلوت بعد الإفراج عنه. الصورة قدمها الشاهد مشكورًا.

في مساء اليوم التالي سمعت الجيران يصرخون "أخلوا، أخلوا المنطقة! إنّهم يقصفون بناية اسطنبول!"، وهي البناية التي تقع خلف منزلي. في تلك اللحظات رنّ جرس الهاتف وكان المتّصل ضابطًا إسرائيليًّا. قال لي: "أنت ضياء الكحلوت، ورقم هويّتك كذا وكذا. عليك أن تخلي المنزل". وقال لي أيضاً إنه يجب علينا الانتقال إلى جنوب القطاع. قلت له: "لا أعرف أحداً في الجنوب. والداي وأسرتي في شمال القطاع، في بيت لاهيا، وأريد أن أذهب إليهم"؛ فأجاب: "لا تذهبوا إلى هناك".

رغم ذلك، هاتفتُ أخي في بيت لاهيا وأخبرته بأنّنا قادمون إليهم. خرجنا من المنزل عند السّاعة 21:30 تقريباً، ولم نأخذ معنا أيّ شيء. دخلنا إلى السيّارة وانطلقنا. عندما وصلت كان والداي والعائلة كلّها في انتظارنا وهُم في غاية القلق والخوف علينا، لانّ الوضع كان صعباً جدّاً والقصف في كلّ مكان. هكذا بدأت رحلة نزوحنا، ومحطّتها الأولى منزل والديّ. بعد مضيّ ثلاثة أيّام عُدت إلى منزلي وحدي لكي آخذ الأموال ومصاغ زوجتي الذهبيّ وعُصفور ابني عليّ وبعض الطعام، ثمّ عُدت إلى منزل والديّ.

بقينا في منزل والديّ نحو شهرين، وكان القصف مستمراً لا يتوقّف. عانينا من نقص في الطعام والماء والكهرباء. كنت أشحن هاتفي لدى الجيران لأنّ لديهم مولّد كهرباء، وحيث أنّ الاتصالات كانت مقطوعة كنت أحياناً أشتري شريحة إسرائيليّة لكي أتمكّن من الاتصال ومُواصلة عملي.

في 7.12.23، عند السّاعة 7:00 بالضّبط، اجتاح الجيش الإسرائيليّ منطقة بيت لاهيا. نادى الجنود عبر مكبّرات الصوت "النساء والأطفال وكبار السنّ، إلى مستشفى كمال عدوان. الرّجال من سنّ 16 وحتى 60 عاماً، إلى الشارع. اخلعوا ملابسكم وابقوا بالسراويل الدّاخليّة".

نزلت إلى الشارع انصياعاً لما أمر به الجنود، وخلعت ثيابي. بعد مضيّ عشر دقائق جمع الجيش كلّ الرّجال في المنطقة، نحو 300 رجُل

نزلت إلى الشارع انصياعاً لما أمر به الجنود، وخلعت ثيابي. بعد مضيّ عشر دقائق جمع الجيش كلّ الرّجال في المنطقة، نحو 300 رجُل. قيّدوا أيدينا إلى الخلف، ثمّ سألني أحد الجنود ما اسمي وما هي مهنتي. أجبته بأنّني صحفيّ وناولته بطاقة الصحفيّ خاصّتي فأخذها وكسرها. من هناك أخذونا إلى سوق بيت لاهيا.

كانت هناك شاحنات عسكريّة. أدخلونا إليها وسارت الشاحنات إلى معسكر للجيش في شمال القطاع. عصبوا أعيننا بقطع قماش وألقوا بنا على الرّمال. كانت هناك جرّافات تحفر آباراً كبيرة. ظننت أنّهم سوف يدفنوننا هناك.

بعد ذلك صنّفونا وأخذوا بصمات أعيننا بواسطة هاتف أو جهاز آخر، لستُ متأكّداً. ثمّ اقتادني جنديّ وضمّني إلى مجموعة رجال فهمتُ منه أنّهم سوف يعيدونهم إلى القطاع. مكثتُ هناك نحو ساعة ثمّ أخذني جنود للتحقيق. كان المحقّق ضابطاً من "الشاباك"، حقّق معي ويداي مقيّدتان وعيناي معصوبتان. سألني الضابط هل يضايقونني فأجبته "نعم". عندئذٍ قال لي: "الآن سوف أرِيحُك منهم". وفوراً، طلب من أحد الجنود أن يشدّ الأصفاد وعصبة العينين أكثر ثمّ راح يتّهمني بأنّني قائد في حركة حماس. أنكرت ذلك وقلت له "أنا صحفيّ". قال لي "الناس قالوا إنّك حماس". أنكرتُ مجدّداً وقلت له "أنا صحفيّ".

عندئذٍ ضربني جنديّ ضربة قويّة على ظهري فقلت مرّة أخرى "أنا صحفيّ!"، فوجّه الجنديّ بدوره ضربة أخرى إلى ظهري. قال لي المحقّق: "أنت لست صحفيّاً". بعد ذلك قال لي: "أنت صحفيّ، وقد كتبت مقالاً عن ’سيّيرت مَتكال‘ - الوحدة التي دخلت إلى خان يونس في العام 2018، وتصدت لها حماس". عندما قلت له "لا أذكر مقالاً كهذا" راح يقرأ من جهاز هاتفه ويقول "أنت حماس". بعد ذلك ذكر الضابط اسم عزمي بشارة، وهو رئيس تحرير صحيفة "العربي الجديد" التي أعمل بها. ثمّ انهالوا عليّ ضرباً.

بعد ذلك رمونا كوماً واحداً داخل شاحنة عسكريّة. سمعت صُراخ وبكاء الأسرى، وضرباً وجلبة أشياء تتكسّر. كان إلى جانبي في الشاحنة شخص يئنّ من شدّة الألم. تبيّن لي أنّه من أقارب والدي ويُدعى علاء الكحلوت. قال لي: "كادوا يقتلونني، حطّموني، كسّروني. ضربوني بالسلاح على ظهري ووجهي". قلت له: "شدّ حيلك. اصبرْ". وهو ما زال معتقلاً حتى اليوم.

توقّفت الشاحنة في معسكر للجيش وهناك أنزلنا الجنود وأدخلونا إلى حافلات عسكريّة. أحد الجنود ضرب رأسي بحديد الشاحنة وقال لي "اجلسْ داخل الحافلة". سارت بنا الحافلة مدّة ساعة ونصف الساعة وُصولاً إلى مركز اعتقال آخر - لم نعرف ما اسمه ولا أين يقع. كان البرد شديداً وكلّما عطست هجم عليّ جنديّ وانهال عليّ ضرباً. بعد أن نزلنا من الحافلة أزالوا القيود عن أيدينا وأعطونا ثوباً أشبه بالبيجاما لنرتديه. رأيت من تحت عصبة عينيّ أنّ لونه رماديّ. كنّا حُفاة.

قسّمونا إلى مجموعات في كلّ منها خمسة أسرى، وكانوا خلال ذلك يضربوننا ويتهكّمون علينا. كان في المعتقل "كرفانان" اثنان قريبين من بعضهما البعض. عندما أدخلوني إلى "الكرفان" الأوّل قال لي الجنديّ: "قلْ أمام الكاميرا اسمك ورقم هُويّتك ومن أين أنت". في "الكرفان" الثاني كان طبيب، سألنا هل نشكو من أيّة أمراض أو نتلقّى أيّة أدوية. قلت له إنني أعاني من مشاكل في الغضروف وأتلقى مسكّنات بشكل دائم.

أوقفونا في طابور لكي ندخل إلى "بركس" يشبه زريبة حيوانات

أوقفونا في طابور لكي ندخل إلى "بركس" يشبه زريبة حيوانات. ضربونا ونحن واقفون في الطابور، وضربونا عندما اقتادونا إلى داخل "البركس" الذي كان عبارة عن مكان محاط بسياج من جميع الجهات وسقفه من الصّفيح، مكشوف تقريباً. هناك أمضينا فترة الاعتقال كلّها، وكنت طوال تلك المدّة مكبّل اليدين ومعصوب العينين.

أعطونا فرشات رقيقة وبطّانيّات رقيقة، وكانت عفنة ورائحتها مُقرفة. كانوا يغيّرون موقع كلّ أسير مرّة كلّ يومين. كنّا نستيقظ كلّ صباح في الرّابعة والنصف فجراً على طرقات وشتائم وقذارات يتفوّهون بها، وننام عند السّاعة 23:30 والأنوار مضاءة. في اللّيل، كلّما غفونا أتى الجنود وأخذوا يخبطون على السّياج لكي يوقظونا. أحياناً كانوا يسمحون لبعض الأسرى بأن يناموا، وخاصة من المرضى والمسنّين. كانت أيدينا مقيّدة إلى الأمام بأصفاد معدنيّة وأعيننا معصوبة، في اللّيل وفي النهار.

كانوا يغيّرون موقع كلّ أسير مرّة كلّ يومين. كنّا نستيقظ كلّ صباح في الرّابعة والنصف فجراً على طرقات وشتائم وقذارات يتفوّهون بها

إذا ما رأى جنديّ أسيراً يتحدّث مع أسير آخر كانوا يوقفوننا مقيّدين ووجوهُنا إلى السّياج طوال أكثر من ساعتين. خلال فترة اعتقالي عاقبوني على هذا النحو سبع مرّات تقريباً، لأنّني تحرّكت أو سعلت. وفي كلّ مرّة استمرّت العقوبة ثلاث ساعات تقريباً.

كانت الحياة هناك جهنّمّة. لا طعام ولا حمّام. وكان هناك "شاويش" فلسطينيّ مهمّته التوسّط بين الأسرى والجيش. كان يسألني من حين لآخر "هل أنت عطشان؟" فأقول له "نعم". عندئذٍ كان يأخذني إلى "الكرفان" الذي فيه المرحاض فأشرب هناك من الحنفيّة. كانوا يشتموننا طوال الوقت "يا أبناء الكلاب" وغير ذلك.

كانت الأيّام تمرّ ببُطء. في اليوم التاسع حقّقوا معي مرّة أخرى. سألوني عن عملي كصحفيّ، من هو صاحب "العربيّ الجديد"، وكيف حدث أنّني أعمل في هذه الجريدة، وأسئلة أخرى. هدّدني المحقّق، وكان يرتدي زيّاً عسكريّاً: "أنت لن ترى ضوء الشمس بعد اليوم"، "أنتم مخرّبون". وقال لي أيضاً إنّهم حين اعتقلونا وجدوا معنا أسلحة فأنكرت ذلك وقلت له إنّنا سلّمنا أنفسنا وفقاً لما أمرنا به الجيش عبر مكبّرات الصّوت.

ربطوني واقفاً على أطراف أصابعي ويداي ممدودتان إلى أعلى ومشدودتان إلى الخلف، وأبقوني هكذا طيلة ساعتين

بعد مضيّ نحو 15 يوماً أخذوني إلى التحقيق مرّة أخرى. كان المحقّق يقول ويكرّر "أنت حماس"، "أنت قائد في حماس في شمال قطاع غزة"، و-"لدينا معلومات أنك مؤيّد لحماس". في هذه المرّة استخدموا "الشبح" أثناء التحقيق: ربطوني واقفاً على أطراف أصابعي ويداي ممدودتان إلى أعلى ومشدودتان إلى الخلف، وأبقوني هكذا طيلة ساعتين.

بعد مضيّ بضعة أيّام أخرى أخذوني مجدّداً إلى التحقيق واستخدموا "الشبح" مرّة أخرى. في هذه المرّة أبقوني على الوضعيّة ذاتها طوال أكثر من ستّ ساعات. أحسست أنّ جسمي يتكسّر. تألّمت كثيراً، خاصّة وأنّني أعاني من قبل مشاكل في الغضروف. كان التحقيق مشابهاً للتحقيق الذي سبقه. توعّدني المحقّق بأنّني لن أخرج من هناك، وأنّهم قادرون على اعتقالي مدّة عشر سنوات لا أرى فيها ضوء الشمس. ثمّ قال لي إنّهم سوف يُبقونني عشرين سنة. عندئذٍ قلت له "طُزّ. لن تفرق عندي".

في ذلك اليوم هطل المطر، وقد خلعوا عنّا ثيابنا وألبسونا حفاضات. كلّ من جرى التحقيق معه في ذلك اليوم ألبسوه حفاضات.

في الأيّام الخمسة والعشرين الأولى من اعتقالي أجبرونا على الركوع طوال الوقت. في إحدى اللّيالي أقاموا قربنا "حفل شواء"، صاخبًا، غنّوا وتحدّثوا عن كرة القدم بأصوات عالية. فعلوا هذا كلّه لكي يصعّبوا علينا النوم.

طوال فترة اعتقالي استحمّيت مرّتين فقط. في المرّة الأولى استحمّيت بماء بارد ولمدّة ثلاث دقائق فقط، وفي المرّة الثانية كان الماء ساخناً ولكن لم يعطونا ملابس لنغيّر التي علينا. في كلّ مرّة كنت أحصل إمّا على قميص وإمّا على بنطلون - وفي الحالتين كانت رائحة الملابس مقزّزة لأنّ عليها دماء وصديد من جراح الأسرى.

كانوا يجلبون لنا الطعام ثلاث مرّات في اليوم. وجبة الفطور اشتملت على شريحتي خبز وملعقة جبنة بيضاء أو مربّى، وفي وجبتي الغداء والعشاء جلبوا لنا شريحة خبز وملعقة طونة. كان الطعام عفناً ورائحته كريهة. جلبوا لنا تفّاح ثلاث مرّات - في المرّة الأولى تفّاحة بأكملها، في الثانية نصف تفّاحة وفي الثالثة رُبع تفّاحة.

رغم التعذيب والضرب والشبح لم أحصل على أيّ علاج طبّي. حصلت مرّة واحدة فقط على قُرص دواء لتسكين الأوجاع. كان هناك أسرى مرضى سرطان وأيضاً مريض ألزهايمر أعرفه

رغم التعذيب والضرب والشبح لم أحصل على أيّ علاج طبّي. حصلت مرّة واحدة فقط على قُرص دواء لتسكين الأوجاع. كان هناك أسرى مرضى سرطان وأيضاً مريض ألزهايمر أعرفه. رأيت جرحى من غزّة كان العلاج الوحيد الذي تلقّوه قُرص "أكامول" وقرصاً آخر أصفر قال الجنود إنّه مضادّ للالتهاب، ولكن لم يكن له أيّ مفعول. الناس كانت تصرخ من شدّة الألم.

كلّما نقلونا من مكان إلى آخر في السّجن تلقّينا الضرب مع كلّ خطوة. أنت مشي وتتلقّى الضربات في أثناء ذلك. يقتادونك للتحقيق وفي الطريق يضربونك. هناك أسرى أجبِروا على الوقوف تحت المطر. ذات مرّا، حين أراد أسير أن يقضي حاجته فظلّ يخبط على السياج لكي يُسرعوا في أخذه إلى المرحاض. بعد أن أخذوه إلى المرحاض جرّوه على الأرض وضربوه حتى كاد أن يموت تحت الضرب. كنت أسمع صُراخه.

لم يُبدوا أيّة ذرّة إنسانيّة في مُعاملتهم معنا. طوال 33 يوماً هي فترة اعتقالي حصلت على مسكّن أوجاع فقط مرّة واحدة، رغم أنّني أحتاجه لمعالجة مشاكل الغضروف. كان الجنود دائماً يعرفون مواضع الألم عندنا ويتعمّدون ضربنا فيها. أنا مثلاً كانوا يضربونني دائماً على ظهري.

كنّا مسجونين في مكان لا نعرفه أين يقع. معزولين عن العالم تماماً. كان يأتي ضابط من "الشاباك" ويقول لنا "لقد دمّرنا شمال قطاع غزّة. أخذنا النساء والأطفال إلى جامعة الأزهر والرّجال إلى السّجون". أو يقول "أفراد عائلاتكم ليسوا أحياءً بعد"... "بعد أن ذهبت عائلاتكم إلى مستشفى كمال عدوان أخذناهم إلى مسجد القسّام في بيت لاهيا وفجّرنا المسجد وساحته وكلّ من كان هناك". عناصر "الشاباك" تعمّدوا توتيرنا نفسيّاً بأبشع الطرق. طيلة هذه المدّة لم يلتق أيّ منّا محامياً.

كنّا مسجونين في مكان لا نعرفه أين يقع. معزولين عن العالم تماماً

في 8.1.24 أخذ ضابط يتلو أسماء الأسرى الذين على وشك الإفراج. كان اسمي الأخير في القائمة، ومن شدّة فرحي بكيت. ذهبنا لننام عند السّاعة 22:30.

في 9.1.24، عند السّاعة 3:00 فجراً، استبدلوا الأصفاد المعدنيّة بأصفاد بلاستيكيّة وقيّدوا أيدينا إلى الوراء بدلاً من الأمام وعصبوا أعيننا. سمحوا لنا أن ندخل إلى المرحاض وأن نشرب ماءً. جمّعونا كلّنا وأوقفونا عند السّياج مدّة ساعة. عندما جاءت الحافلات أدخلوا في كلّ حافلة 40 أسيراً وجنوداً يرافقونهم. عندما وصلنا إلى معبر كرم أبو سالم أعطونا ماءً وقالوا لنا "هيّا اذهبوا وإلّا فسوف نطلق عليكم النار!". عندما وصلنا إلى الجانب الفلسطينيّ للمعبر استقبلنا موظّفون من الصّليب الأحمر ووكالة الغوث. أجروا إسعافات أوّليّة للأسرى الجرحى ثمّ أقلّونا إلى مخيّمات النازحين. أعطى الصّليب الأحمر لكلّ أسير مبلغاً صغيراً من المال لكي يشتري ملابس واحتياجات أخرى، خاصّة من لا عائلة له في جنوب القطاع.

أخي محمد، وهو أيضاً صحفيّ، كان معتقلاً طيلة تسعة أيّام وبقي في جنوب القطاع. عندما علم أنّه قد أطلق سراحي جاء وأخذني. لم أتمكّن من التواصُل مع عائلتي إلّا بعد أن مرّت ثلاثة أيّام على إطلاق سراحي، لأنّ الانترنت كان ضعيفاً جدّاً. في شمال القطاع استمرّ القصف وكان من الصّعب أن أتحدّث معهم. كانوا خائفين طوال الوقت. فقط مرّة واحدة تمكّنت من إجراء محادثة فيديو معهم.

أمضيت ثلاثة أشهُر في خيمة مشتركة مع صحفيّين من رفح. هذه الفترة كانت هي الأصعب والأكثر بعثاً على اليأس. لم تكن مراحيض سوى في المسجد القريب، ولأجل دخولها كنّا نضطرّ إلى الانتظار في طابور مدّة ساعة ونصف. الماء بالكاد توفّر، وكنّا نتناول الطعام مرّة واحدة في اليوم وفي معظم الأحيان طعاماً معلّباً - هذا إذا وُجد. كان كلّ شيء باهظ الثمن والحياة صعبة للغاية.

كان لديّ أمل أن أستطيع العودة إلى الشمال وتعود الحياة إلى مجراها ولكن الحرب استمرّت، للأسف. جُروحي الناجمة عن التعذيب التهبت وصارت تفرز الصّديد، إضافة إلى ذلك أخذت أعاني اعراض القولون العصبيّ. في القطاع لم يكن ممكناً الحصول على علاج فعّال وأدركت ضرورة الخروج من القطاع لتلقي العلاج. في 10.3.24 تمكّنت من مغادرة القطاع والسّفر إلى القاهرة، وبعد يومين - في 12.3.24 - تمكّنت زوجتي والأولاد من الوصول إلى جنوب القطاع. جاءوا بدون أيّ شيء، فقط بالملابس التي عليهم. مكثوا ليلة واحدة في رفح، في منزل شقيقة زوجتي، وفي اليوم التالي - 13.3.24، تمكّنوا من المغادرة إلى مصر وانضمّوا إليّ.

كان اللّقاء مع زوجتي والأولاد مؤثّراً جدّا، وصعباً. عانقنا بعضنا البعض ورُحنا نبكي. بدلاً من علامات الفرح كنّا نبكي. ولكن الحمد لله أنّ شملنا التأم أخيراً، وإن كان ذلك خارج قطاع غزة.

بقينا في مصر مدّة شهرين ونصف، وفي 3.6.24 سافرنا إلى قطر. الآن نحن في الدّوحة وأنا أعمل مجدّداً في صحيفة "العربي الجديد".

الآن وضعي الجسديّ أفضل، رغم أنّني وأولادي نعاني اليرقان. نحن نتعافى رُويداً رُويداً. والداي وإخوتي ما زالوا في القطاع وهذا صعب جدّاً.

- هذه الإفادة استمعت إليها هاتفيّاً باحثة بتسيلم المدانيّة ألفت الكُرد في 15.6.24