محمّد سرور (34 عامًا)، أب لاثنين، من سكّان نعلين في محافظة رام الله

  

بتسيلم - 7/4/2024

أنا أرتزق من بيع الخضار. على مر السنوات، اعتقلني الجيش الإسرائيليّ خمس مرّات، كانت المرّة الأولى عام 2008 والأخيرة بعد 7 تشرين الأوّل. وتراوحت فترات الاعتقال من أربعة إلى ستّة أشهر. وكان أحد الاعتقالات اعتقالًا إداريًّا، والآخر بذريعة التحريض على الفيسبوك. لكنّ الاعتقال بعد 7 تشرين الأوّل كان مختلفًا تمامًا عن كلّ الاعتقالات الأخرى.

في 18.10.23، قرابة الساعة 2:00 فجرًا، اقتحمت قوّة عسكريّة، يقودها ضابط في "الشاباك"، منزلي في حيّ وادي العين عندما كنتُ في سوق نابلس – اشتريتُ من هناك خضارًا لمتاجري في نعلين. عندما لم يجدوني في المنزل اقتحموا منزلَي أخويّ التوأمين، عبد الرحمن وأحمد (29 عامًا). اتّصل بي الضابط من هاتف عبد، وعرّف عن نفسه بأنّه "بشّار"، وهدّدني بأنّهم اعتقلوا أخويّ وبأنّهم لن يطلقوا سراحهما إلّا إذا سلّمتُ نفسي. شرحتُ له بأنّني في نابلس، فقال لي إنّ أمامي 30 دقيقة للوصول. فقلتُ له: "كيف يمكنني أن آتي إليك من نابلس خلال نصف ساعة؟". طلبتُ منه أن يسمح لي بتسليم نفسي في حاجز حوّارة، لكنّه رفض. اقترحتُ عليه أن أحضر في الصباح إلى معسكر "عوفر"، ولكنّه رفض ذلك أيضًا. أصرّ على أن أحضر إلى حاجز نعلين، وقال لي إنّني إذا لم أحضر إلى هناك فسوف أُعتَبر مطلوبًا هاربًا. فقلتُ له إنّه ليس لديّ أيّ نيّة في الهرب. لم يكن لديّ أيّ خيار، غادرتُ السوق وسافرتُ عائدًا باتّجاه نعلين، لكنّ السفرة استغرقت وقتًا أطول بسبب الحواجز والشوارع المغلقة في الضفّة ولم أصل إلّا في الساعة 5:00.

أثناء الاعتقال تعرّض كلّ مَن طلب الذهاب إلى المرحاض أو شرب الماء إلى اللكم والركل الشديدين من قبَل الحرّاس

عندما وصلتُ إلى القرية لم أجد الجنود هناك، لكن بعد ذلك اتّصل بي الضابط وأمرني بالحضور فورًا إلى حاجز نعلين. ذهبتُ إلى هناك سويّةً مع شابّ صغير كان مطلوبًا هو أيضًا من قبَل الضابط. أخذتُ معي حقيبة ملابس لأنّني قدَّرتُ أنّهم سيعتقلونني. عندما وصلتُ إلى الحاجز، اتّصل بي الضابط. قال إنّه رآني بكاميرا المراقبة، وسألني عمّا لديّ في الحقيبة. أجبتُه بأنّها ملابس، فسألني إذا كان فيها قنبلة. فتحتُ الحقيبة وأخرجتُ كلّ شيء كان في داخلها حتّى يرى أنّه ليس فيها أيّ شيء محظور. بعد ذلك أمرنا بالدخول إلى الحاجز. دخلنا وأجروا لنا تفتيشًا روتينيًّا.

محمد سرور قبل الحرب وبعد الإفراج عنه. الصور قدمها الشاهد مشكورًا.

في هذه المرحلة، قرابة الساعة 7:00، التقى بنا ضابط "الشاباك" وعرّف عن نفسه. كان يرتدي زيًّا عسكريًّا، وكانت هذه هي المرّة الأولى التي أراه فيها. كان برفقته عنصران أمنيّان آخران من الحاجز. من هناك نقلونا إلى غرفة مساحتها 1x2 متر. بعد 30 ​​دقيقة فُتِح الباب، ثمّ أبلغنا الضابط "بشّار" بأنّ قواعد اللعبة تغيّرت، وبأنّ حماس قتلت أطفالًا واغتصبت نساء، وبأنّهم داعش. بعد ذلك قال لي إنّهم يعرفون بأنّني ناشط وهم على علم بأنشطتي السياسيّة. ثمّ قال لي بأنّني سأذهب إلى السجن. بعد 30 دقيقة أخرى حضر جنود. قيّدوا أيدينا بالأصفاد. في البداية أرادوا تقييد يدي بالأصفاد من الخلف، لكنّني قلتُ لهم إنّني لا أستطيع ثنْي ذراعي اليمنى إلى الخلف لأنّني خلعتُ كتفي في العمل، فقيّدوا يديّ بالأصفاد من الأمام. الشابّ الثاني قيّدوا له يديه بالأصفاد من الخلف. بعد ذلك عصبوا أعيننا بقِطَع من القماش، واقتادونا إلى سيّارة جيب عسكريّة خارج الحاجز، ووضعونا على أرضيّة سيّارة الجيب. أدركتُ أنّها سيّارة جيب من ضجّة المحرّك. أخذونا من هناك إلى معسكر رنتيسي (حاجز رنتيس). عندما كنّا هناك أحضروا أخويّ، عبد وأحمد، ووالد وأخ المعتقل الآخر، اللذين احتُجزا هما أيضًا كرهينتين حتّى يسلّم نفسه، وأطلقوا سراحهم. ضمّونا إلى مجموعة شبّان، وميّزتُ من تحت العصابة أنّهم من سكّان قريتنا الذين تمّ اعتقالهم في تلك الليلة. أجلسونا على الأرض. كنّا 11 شخصًا. في الساعة 9:00 أدخلوني إلى العيادة لإجراء فحص لي من قبَل طبيب عسكريّ. سألني بالعبريّة عن وضعي الصحّيّ. أنا أفهم العبريّة وأجبتُه عن أسئلته. كان ذلك مجرّد فحص صوريّ. كانت يداي مُقيّدتين، لكنّني كنتُ بدون عصابة العينين. بعد ذلك أجروا فحصًا طبّيًّا للمعتقل الثاني وأعادونا إلى المجموعة. أثناء الاعتقال تعرّض كلّ مَن طلب الذهاب إلى المرحاض أو شرب الماء إلى اللكم والركل الشديدين من قبَل الحرّاس. أنا صرتُ خبيرًا بحكم تجاربي، لذا لم أطلب أيّ شيء، رغم أنّني كنتُ بحاجة للذهاب إلى المرحاض. ضربوا أربعة معتقلين بهذه الطريقة.

قرابة الساعة 11:00 اقتادونا إلى الحافلة معصوبي الأعين ومقيّدي الأيدي. كانت يداي ويدا شخص آخر مقيَّدة من الأمام، بينما كانت أيدي الآخرين جميعهم مقيَّدة خلف ظهورهم. أجلسونا على مقاعد الحافلة ثمّ بدأت جولة من ممارسات التنكيل. أمرونا بأن نغنّي ونردّد وراءهم الجملة "عام يسرائيل حاي". طلبوا من كلّ واحد منّا، حسب الدور، أن يقول ذلك. كلّ مَن رفض تعرّض للضرب. أنا رفضتُ، فقام أحد الجنود بدفع رأسي إلى الأسفل بين المقعدين وضربني على ظهري ورأسي. بعد ذلك قال لي أن أعيد الجملة من بعده، واستمرّ في الضغط على رأسي. كان ينتقل إلى شخص آخر في كلّ مرّة ثمّ يعود إليّ. قالوا لنا إنّهم سيأخذوننا إلى غزّة لكي يقتلونا هناك. تبيّن لاحقًا أنّهم أخذونا إلى مستوطنة "معاليه إفرايم". أنزلوا أربعة معتقلين هناك، واتّضح لي بأثَر رجعيّ أنّ هؤلاء كانوا معتقلين يعانون من مشاكل طبّيّة في القلب، وأخذوهم على أساس أنّهم سيُجرون لهم فحص إي.كي.جي.، لكنّهم لم يجروا الفحص بذريعة عدم وجود جهاز. بعد نصف ساعة أرجعوهم إلى الحافلة التي واصلت السفر دون أن نعرف إلى أين وجهتها. في الطريق، بدأت "الحفلة": "عام يسرائيل حاي"، صراخ، "ستموتون في غزّة". ضربونا وشتمونا. كما قاموا بتصويرنا. أدركتُ ذلك عندما رفع واحد منهم رأسي ووجّهه إلى هاتفه المحمول لكي يتصوّر معي؛ رفع العصابة عن عينَيّ وطلب منّي أن أقول تلك الجملة. رفضتُ، فأخذ يضربني كما جرى سابقًا. كانت الطريق طويلة، وشعرنا بالتعب الشديد لأنّهم لم يقدّموا لنا طعامًا أو شرابًا، كما لم يسمحوا لنا بالذهاب إلى المرحاض. استغرق الأمر أكثر من ثلاث ساعات حتّى وصلنا إلى "عتصيون". أنزلونا في ساحة خارجيّة، وهناك التقينا بنحو أربعين معتقلًا آخر. بعضهم أُجبِر على الاستلقاء على بطونهم، بينما جلس الآخرون بشكل عاديّ. كما قيّدوا أرجل بعضهم بالأصفاد أيضًا. أجلسونا هناك.

سمعتُ صراخ معتقلين آخرين وضربات الحرّاس وشتائمهم. كانوا يتنقّلون من مجموعة معتقلين إلى أخرى حتّى جاء دورنا لنتعرّض للضرب. يحدث ذلك فجأةً. على مدار ساعتين تقريبًا تلقّيتُ أكثر من عشر ركلات في منطقة الخصر، تسبّبت لي بآلام شديدةً. في بعض الأوقات لم أستطع التنفّس تمامًا. أوقفوني أيضًا، ورأيتُ من تحت العصابة أنّهم يلفّونني بعلم إسرائيل ويلتقطون لي الصور. بعد ذلك لفّ أحدهم ذراعه حول رقبتي، وشدّ رأسي إلى الأسفل وركض معي في الساحة. وقام جنديّ آخر بتصوير ذلك بالفيديو. تظاهروا بأنّهم يصوّرون مشهد اختطاف في أحد الأفلام. سمعتُ الجنود يضحكون ويطلبون من بعضهم البعض التصوير. استمرّ ذلك نحو عشر دقائق. لم أرَ أنّهم فعلوا ذلك مع شخص آخر.

بعد ذلك أدخلوني إلى غرفة، ونزعوا العصابة عن عينيّ. كان في الغرفة ثلاثة جنود وحاسوب، وهناك أخذوا بصمات أصابعي وأخذوا منّي أغراضي الشخصيّة (الهاتف المحمول، بطاقة الهويّة، النقود والسجائر). أرادوا رمي الملابس التي أحضرتُها في سلّة النفايات، لكنّني طلبتُ منهم أن يسمحوا لي بارتدائها – لأنّني أحضرتُ خصّيصًا ملابس من المفترض بها أن تتوافق مع قواعد السجن. وافقوا. بعد ذلك قاموا بتفتيشي وأمروني بخلع ملابسي بالكامل، بما في ذلك اللباس الداخليّ. فتّشوني عاريًا بجهاز يدويّ لكشف المعادن. بعد ذلك ارتديتُ الملابس ذاتها وأعادوني إلى الساحة حيث أمروني بالركوع على ركبتيّ. انتظرتُ لمدّة ساعة حتّى يكملوا مع بقيّة المعتقلين. هذه الوضعيّة آلمتني كثيرًا وبعد بعض الوقت لم أعد أشعر برِجليّ. وكلّما حاولتُ تغيير وضعيّتي لأريح رِجليّ قليلًا، كان أحدهم يضربني على رأسي. بعد ذلك أخذوني سويّة مع خمسة معتقلين آخرين إلى زنازين السجن. في الممرّات، ونحن على الطريق، دفعنا الحرّاس بعنف إلى الجدران. أدخلونا إلى الزنزانة رقم 8. وهي زنزانة كبيرة، فيها خمسة أسرّة حديديّة من طابقين، لكن لا توجد عليها فرشات، وإنّما فقط إسفنجة رفيعة سمكها 2 سم، أو بطانيّة. لم يكن في الزنزانة أضواء، وعمّها ظلام دامس تقريبًا. كان فيها مرحاض، لكنّه كان ذا رائحة كريهة جدًّا، وليس له باب. وكان فيها حوض اغتسال ذو صنبور للشرب ولغسل اليدين.

تظاهروا بأنّهم يصوّرون مشهد اختطاف في أحد الأفلام. سمعتُ الجنود يضحكون ويطلبون من بعضهم البعض التصوير

في تلك الليلة كنّا سبعة معتقلين فقط في الزنزانة، رغم أنّهم عادةً ما يحشرون في زنازين هذا السجن ضعف عدد المعتقلين الذي يقولون عنه. في الليل فقط أحضروا لنا الطعام، كان قِدرًا كبيرًا من المعكرونة مع البيض. أطعمونا مثل الحيوانات: في كلّ مرّة كانوا يخرجون معتقلي زنزانة مختلفة إلى الساحة، وأكلنا كلّنا من القِدر نفسه مستخدمين الملاعق نفسها. أي، أكل جميع المعتقلين الذين في 12 زنزانة من هذا القِدر نفسه. لم نكن نعرف حتّى ما الذي نأكله، لكنّنا أكلنا حتّى لا نكون جائعين. شعر قسم من المعتقلين باشمئزاز شديد لدرجة أنّهم لم يتمكّنوا من الأكل.

نمنا في تلك الزنزانة، وفي صباح اليوم التالي نادوا عليّ ونقلوني إلى سجن "عوفر"، بمركبة لنقل المعتقلين، سويّةً مع عشرة معتقلين آخرين، كلّنا من نعلين. كانت أعيننا معصوبة وأيدينا وأرجلنا مقيَّدة بأصفاد معدنيّة مشدودة بإحكام كبير للغاية، وقد غَرزت في اللحم تمامًا وكانت تؤلمنا. رافقنا أفراد من وحدة "نحشون". كان بيننا وبينهم فاصل ولم يضربونا في الطريق.

عندما وصلنا إلى "عوفر" أدخلونا إلى زنزانة انتظار، مساحتها 2x2 متر، لا تحتوي إلّا على نافذة صغيرة للتهوية ومقعد خرسانيّ لا يكفي الجميع. معظمهم ظلّوا واقفين. بعد ذلك أدخلوا عشرة معتقلين آخرين إلى الزنزانة وبقينا على هذه الحال ساعةً. لم يكن هناك ماء، ولم يكن هناك سوى مرحاض صغير مكشوف مُعلّق على الحائط. طلبنا ماء، لكنّهم لم يعطونا. بعد ذلك اقتادونا إلى التفتيش الجسديّ وهناك رموا الأحذية والملابس التي كنّا نرتديها في حاوية النفايات. فتّشوني وأنا عارٍ تمامًا وكان باب الغرفة مفتوحًا. أثناء التفتيش تحسّسوا جسدي وأجبروني على الوقوف والانحناء ثلاث مرّات. بعد ذلك أعطوني ملابس سجن بُنّيّة، شبشبًا، منشفة وفرشاة أسنان. أعادوا لي لباسي الداخليّ فقط. سألتُهم لماذا يرمون ملابسي، إذ كنتُ قد أحضرتُ ملابس تتوافق مع قواعد السجن، من ناحية النوع واللون، لكنّهم قالوا إنّه ممنوع بتاتًا أن نرتدي ملابس أحضرناها معنا.

بعد التفتيش نقلوني إلى الزنزانة 2 في القسم 14. كان معي في الزنزانة 9 سجناء، وأحيانًا أدخلوا أكثر من ذلك، حتّى 12. مساحة الزنزانة هي 7x3.5 متر مربّع. كان فيها 3 أسرَّة من طابقين، وكان لكلّ سجين فرشة وبطانيّة. كان هناك ضوء، لكن لم يكن هناك أيّ جهاز كهربائيّ: لا إبريق كهربائيّ، لا موقد للطهي ولا أواني أو قدور للطهي أيضًا، كما كان في الماضي. لم يكن هناك راديو أيضًا ولا كتب، ولا حتّى القرآن. لم نتلقَّ موادّ تنظيف أو ممسحة، لذا ظلّت الزنزانة متّسخة وكريهة الرائحة. كان هناك الكثير من بقّ الفِراش والحشرات. بعد ثلاثة أيّام أعطونا ممسحة بشكل استثنائيّ، فتمكّنّا من شطف الزنزانة. بالنسبة إلى الحمّامات، كان سجناء كلّ زنزانة يحصلون في الصباح على 15 دقيقة للخروج معًا إلى الحمّامات. كانت المياه باردة، ولم يكن هناك شامبو أو صابون. لم يكن لدينا ملابس بديلة، ولا حتّى ألبسة داخليّة بديلة.

لم يكن هناك سوى وجبتي طعام في اليوم، في الظهر والمساء. في الصباح لم نتلقّ سوى علبة لبن سعة 50 غرامًا، وهذا لا يمكن اعتباره وجبة طعام. في الظهر كان ذلك أرزًّا نصف مطبوخ، وكان كلّ سجين يحصل على 3-4 ملاعق صغيرة، كما كنّا نحصل مرّة ​​واحدة في الأسبوع على قطعتين من النقانق أو في بعض الأحيان على شريحة "شنيتسل" وبطاطا. كنّا نبقى جائعين معظم الوقت. وفي المساء، كانت الوجبة عبارة عن حبّة فلفل، حمّص وبيض، وهذه أيضًا لم تكن بكمّيّات كافية.

طوال الأشهر الخمسة التي قضيتُها في سجن "عوفر" لم تكن هناك زيارات ولا محامون ولا صليب أحمر. في 23.10.23 أخرجوني إلى جلسة في المحكمة. كبّلوا يدَيّ وما إن دخلتُ إلى الجلسة حتّى أخذوني إلى غرفة انتظار كانت المعاملة فيها مُهينة جدًّا. كانت تلك معاناة في حدّ ذاتها.

حينما قام أفراد سلطة السجون بنقلنا تصرّف بعضهم بشكل عاديّ بينما كان البعض الآخر منهم عنيفًا: ضربونا وشتمونا، وأرغمونا على إبقاء رؤوسنا محنيّة. في ذلك اليوم أخذوني إلى غرفة تحقيق في "عوفر". لم يكن التحقيق تحقيقًا حقًا. طَرح عليّ الأسئلة وأجاب عليها بنفسه. كان الأمر على هذا النحو: سأل المحقّق "هل أنت حماس؟"، وأجاب بنفسه "لا". بعد ذلك سأل "هل شاركت في أحداث؟"، وأجاب "لا..."، وعلى هذا المنوال. أمرني أحد المحقّقين بالتوقيع على استمارة أعطاني إيّاها هو. بعد ذلك أعادوني إلى الزنزانة. في الساعة 18:00 مساءً أحضروا معتقلين اثنين جديدين إلى زنزانتنا. كلاهما كانا من بيت سيرا ولم أكن أعرفهما من قبل. أحدهما كان يُدعى عرفات ياسر حمدان، وكان عمره 24 عامًا. عرفات لم يبدُ في حالة جيّدة. رأوا أنّه منهك وأنّه لم يكن قادرًا على التكلّم. سألتُ المعتقل الثاني: ما خطبُه؟ فأجاب: "إنّه مريض ومتعب". لاحظتُ أنّ عرفات كان يضع يديه على بطنه طوال الوقت وأنّه كان يعرج في رِجله اليمنى. فهمتُ أنّه تعرّض للضرب في "عتصيون". أعطيناه فرشة ويسَّرنا له أن ينام. بعد نصف ساعة نهض وذهب بسرعة إلى المرحاض وهو مُمسك ببطنه، وأخذ يتقيّأ هناك. ثمّ عاد وتمدّد على الفرشة وكان واضحًا أنّه يعاني من أوجاع. في غضون ساعتين تقيّأ بشكل متكرّر أكثر من 5 مرّات. وفي كلّ مرّة، بعدما كان يعود إلى الفرشة، كان يقول "ساعدوني، ساعدوني"، ويخبط الأرض بيده. وعندما سألناه عمّا حدث له، أجاب: "ضربوني، عذّبوني". بعد ذلك قال لنا: "لديّ مشكلة مع السكّر في الدم، إذا لم آكل شيئًا لرفع نسبة السكّر في الدم فسوف أصاب بنوبة من التشنّجات وقد يُغمى عليّ، وهذا سيزيد مشكلتي الصحّيّة سوءًا. علاوةً على ذلك ضربوني في منطقة المعدة والبطن".

طوال ساعتين، من الساعة 18:30 إلى الساعة 20:30، طلبتُ مرارًا وتكرارًا، عبر فتحة في الباب، أن يأتي طبيب لفحصه. في النهاية جاء مسعف فقط ونظر إلى عرفات عبر فتحة الباب. شرح له عرفات حالته الصحّيّة، وقال له إنّه في وضع صعب وإنّه يحتاج إلى علاج في المستشفى بسبب مرض السكّريّ. فهمتُ أنّه بحاجة إلى تلقّي حقنة خاصّة، لكنّ المسعف قال له: "لا يوجد مستشفى"، وانصرف دون أن يقدّم له أيّ علاج.

قلتُ لهم أكثر من خمس مرّات إنّ عرفات قد مات، وكانوا يجيبونني فقط بأنّه ممنوع لهم أن يفتحوا الباب وبأنّ المسعف سيأتي بعد قليل

بدأت حالة عرفات بالتدهور، عانى من صعوبة في التنفّس، وكان يشهق ويلهث. تقيّأ مرارًا وتكرارًا. لم نستطع أن نساعده على الإطلاق. سهرتُ أنا ومعتقل آخر في الليل لمراقبته، بالتناوب. حاولتُ مساعدته، وفي الأساس كنتُ أرفعه كلّما كان بحاجة أن يتقيّأ، كي لا يختنق. بدأ يتقيّأ سائلًا أسود يشبه تفل القهوة. في ساعات الصباح أغمِي عليه. خلال 4-5 ساعات توسّلتُ أكثر من 30 مرّة أن يرسلوا المسعف مرّة أخرى. وعندما وصل في النهاية رأى عرفات فاقدًا للوعي عبر فتحة الباب وقال لي إنّه يجب أن يحضر إلى العيادة. سألتُه كيف من المفروض به أن يحضر إلى العيادة إذا كان فاقدًا للوعي، فطلب منّا المسعف أن نسحبه إلى باب الزنزانة. بعد أن سحبنا عرفات على بطانيّة حتّى الباب، طلب منّا المسعف أن نجعله يقف على رِجليه. سألتُه كيف من المفروض به أن يقف على رِجليه وهو فاقد للوعي. في النهاية أعطاني جهازًا لفحص نسبة السكّر في الدم، مع عيدان للفحص. فحصناه وظهرت لديه قيمة منخفضة جدًّا. بعد دقيقتين عاد المسعف وطلب من السجّان أن يفتح باب الزنزانة لإخراج عرفات. وضعناه على فرشة وسحبناه نحو 15 مترًا حتّى غرفة الإدارة. بعد 40 دقيقة أعادوه وهو يمشي على رِجليه. يبدو أنّهم أعطوه سوائل. بعد ذلك جاء الممرّض وأحضر كوبًا من الماء مع سكّر. أعطاني الكوب وطلب منّي أن أعطيه لعرفات لكي يشرب منه كلّما شعر بالإعياء، كما طلب منّا أن نطعمه. حاولنا أن نعطيه خبزًا عليه لبنة ليأكل، لكنّه لم يستطع أن يأكل. كان يأخذ لقمة وكانت تبقى في فمه ربع ساعة دون أن يتمكّن من بلعها.

حاولتُ أن أعطيه الماء مع السكّر، لكنّه لم يستطع ابتلاعه هو أيضًا. بعد ساعة تدهورت حالته مرّة أخرى وأغمِي عليه. طلبتُ من السجّان مرارًا وتكرارًا أن يستدعي المسعف، لكنّه رفض. عند إحصاء الظهر، لم يتمكّن عرفات من الوقوف على رِجليه، فسألني الضابط عن سبب عدم قيامه، فشرحتُ له حالة عرفات. قال إنّه سأل المسعف بشأنه وقال له إنّ عرفات لا يعاني من أيّ شيء وليس هناك ما يمكن فعله له. بعد الإحصاء غادروا الزنزانة وبقي عرفات على هذا الوضع حتّى الساعة 15:00 بعد الظهر. في مرحلة معيّنة غفوتُ لأنّني لم أنم في الليل لكي أراقبه. وإذا بالسجناء الآخرين يوقظونني ويقولون لي إنّ عرفات لم يعد يتنفّس. رأيتُ رغوة تخرج من فمه. فحصتُ إذا كان لا يزال لديه نبض، لكن لم يكن هناك نبض ولم يكن يتنفّس. قمنا بإجراء إنعاش قلبيّ رئويّ له مع تنفّس اصطناعيّ لمدّة 5-10 دقائق، لكنّه لم يستجب. لديّ بعض المعرفة بالإسعاف الأوّليّ، ونظرًا لعدم وجود علامات حياة، قدَّرتُ أنّه قد مات. أخذنا ننادي السجّانين. من وقت لآخر كان يمرّ أحد السجّانين هناك، قلتُ لهم أكثر من خمس مرّات إنّ عرفات قد مات، وكانوا يجيبونني فقط بأنّه ممنوع لهم أن يفتحوا الباب وبأنّ المسعف سيأتي بعد قليل.

استمرّ الأمر على هذا النحو لمدّة ساعة أو ساعة ونصف، وعندها فقط جاء الجميع فجأةً، الإدارة، السجّانون، الأطبّاء والمسعفون. فتحوا الباب. قمتُ أنا ومعتقلان آخران بإخراج عرفات على الفرشة إلى ساحة السجن. ومن هناك أخذوه على نقّالة باتّجاه الإدارة. لا نعرف ماذا حدث له بعد ذلك. بعد نصف ساعة عاد إلينا أحد السجّانين وقال لنا إنّ عرفات بخير ولا يعاني من أيّ مشكلة صحّيّة. وقال إنّهم نقلوه إلى المستشفى وحالته جيّدة. قلتُ له: "أنت تضحك علينا؟!" لم أصدِّق ما قاله. إذ خرج عرفات من الزنزانة ميّتًا، بلا نبض ولا نفَس. سألتُه "كيف تقول إنّه لا يعاني من أيّ مشكلة صحّيّة؟"، لكنّ ذلك لم يهمّه.

بقيتُ في الزنزانة نفسها حتّى 1 تشرين الثاني، ثمّ أخذوني مع 49 معتقلًا آخر إلى زنزانة انتظار لأجل النقل. كانت تلك رحلة صعبة. كنّا مقيّدين في أيدينا وأرجلنا (دون عصابة على أعيننا)، وقام أفراد وحدة "نحشون" الذين رافقونا بإفلات الكلاب علينا وبضربنا بالهراوات، على الظهر والأرجل في الأساس، وطوال الوقت شتموا قادة حماس وما شابه. وفي غرفة الانتظار أيضًا عاملونا بطريقة مهينة، ومن هناك أخذونا إلى حافلة. هذه القصّة كلّها، من اللحظة التي أخرجونا فيها من الزنازين حتّى أصعدونا إلى الحافلة، استمرّت من الساعة 6:00 صباحًا حتّى الساعة 11:00. أي، خمس ساعات من الإذلال، التنكيل والضرب غير المحتَمل دون توقّف. كانت الحافلة مقسَّمة إلى مقصورات، وكانت كلّ مقصورة تتّسع لثلاثة سجناء. كان معي شابّان، أحدهما من رام الله والآخر من بيت لحم. أخبرني المعتقل من رام الله بأنّهم قاموا في سجن "عوفر" بإطلاق قنبلة غاز أو فلفل على رِجله من المسافة صفر. كانت رِجله مضمَّدة ورأوا الدم تحتها. قال إنّ لديه جروحًا عميقة وحروقًا تسبّبت له فور الإصابة بشلل مؤقّت في رِجله.

بعد نحو ثلاث ساعات من السفر الشاقّ والمضني وصلنا إلى سجن "نفحة". أنزلونا من الحافلة، وفي الطريق إلى الزنازين كانت المعاملة مماثلة لتلك التي تلقّيناها في سجن "عوفر". أفلتوا الكلاب علينا وتعرّضنا للضرب المبرِّح والإهانات. قبل الدخول إلى الزنازين أخذوني أنا ومعتقلًا آخر إلى غرفة، أجلسونا هناك أمام /شاشة حاسوب من أجل المشاركة في جلسة محكمة في بثّ حيّ. قبل بدء الجلسة هاجمونا وضربونا ضربًا مبرِّحًا بهراوات معدنيّة على جميع أنحاء الجسم، لأكثر من 30 دقيقة. كان في جلسة المحكمة قضاة، مدّعون، مترجم ومحامٍ. عندما رآني المحامي على الحاسوب وكان وجهي متورِّمًا وأحمر مع كدمات، سألني عمّا حدث لي. أخبرتُه بما حدث قبل الجلسة وطلب منّي أن أحكي للقاضي. في الجلسة كانت لديّ حقًّا فرصة للتحدّث، وشرحتُ للقاضي ما حدث. وسألني إذا أخذوني إلى الفحص وإذا عالجني طبيب. فأجبتُ لا. أوصى بأخذي إلى طبيب. اكتشفتُ خلال الجلسة أنّهم أصدروا أمر اعتقال إداريّ بحقّي لمدّة ستّة أشهر. وبسبب حالتي الصحّيّة، وبسبب الضرب المبرِّح والتنكيل، تقرّر تقصير المدّة إلى خمسة أشهر.

بعد الجلسة، في الطريق إلى الزنزانة، انتقم منّي أفراد سلطة السجون لأنّني شكوتُ سلوكهم. ضربوني وركلوني بوحشيّة طوال الطريق كلّها

خلال الجلسة تحدّثتُ أيضًا عمّا حدث مع عرفات، وكذلك عن الممارسات التنكيليّة والاعتداءات الوحشيّة علينا من قبَل السجّانين خلال نقلنا من مكان إلى آخر، لكنّ القاضي لم يتطرّق لذلك. بعد الجلسة، في الطريق إلى الزنزانة، انتقم منّي أفراد سلطة السجون لأنّني شكوتُ سلوكهم. ضربوني وركلوني بوحشيّة طوال الطريق كلّها. عندما وصلنا أدخلوني إلى الزنزانة 68 في الجناح 12. أعتقد أنّ هذا الجناح مخصّص لسجناء حماس. كانت الزنازين مهملة وكان الانطباع بأنّنا أوّل من يدخلها. كانت هناك رائحة رطوبة وعفن على حيطان الزنزانة. كان من المستحيل التنفّس في داخلها. أنت تحلم هناك فقط باستنشاق هواء نقيّ. لم يكن في الزنازين نوافذ تطلّ على الساحة، وكان يربطها ببعض ممرّ طويل مسقوف – بحيث لا يدخل ضوء الشمس ولا الهواء النظيف. كانت مساحة الزنازين 7x3.5 أمتار مربّعة. لم تكن هناك كهرباء، ولم تكن هناك استجابة للاحتياجات الأساسيّة. لم يكن هناك سوى 4 أسرّة من طابقين، تكفي لـ 8 أشخاص، لكنّهم أدخلوا 10، 12 وأحيانًا 14 سجينًا إلى كلّ زنزانة.

في اليوم الأوّل لم نحصل إلّا على فرشة، على الرغم من أنّ الليالي شديدة البرودة بسبب المناخ الصحراويّ. كنّا نرتجف من البرد، حاولنا أن نلتصق بعضنا ببعض قدر الإمكان لنتدفّأ قليلًا. فقط بعد ثلاثة أيّام أحضروا لنا بطانيّات. حصل كلّ سجين على بطانيّة واحدة. شعرتُ بالبرد الشديد لأنّني لم أكن أرتدي سوى قميص قصير بعد أن صادروا ملابسي. لم يكن هناك ما يكفي من الماء، لم يكن بإمكاننا أن نشرب إلّا من صنبور حوض الاغتسال الذي في المرحاض، والذي كانت رائحته كريهة جدًّا. كان في حجرة المرحاض حمّام أيضًا، لكن لم يكن فيه ماء ساخن معظم الوقت. عندما حصلنا على ماء ساخن كان ذلك لمدّة ساعة واحدة فقط، ولم يكن ذلك في أوقات محدّدة. في بعض الأحيان كان هناك ماء ساخن يومًا بعد يوم، وأحيانًا لم يكن هناك لمدّة أسبوع كامل. كان الماء البارد لمدّة ساعة واحدة تقريبًا كلّ يوم. كانت الزنزانة قذرة جدًّا ومليئة ببقّ الفِراش والحشرات الأخرى التي كانت تلسعنا وتسبّب لنا استجابات تحسّسيّة، وفي بعض الأحيان انتفاخًا فعليًّا. هذا الأمر أدخلنا في ضغط ومنعنا من النوم بهدوء. السمة الأساسيّة لهذا السجن كانت تعطيل روتين الحياة اليوميّة. على سبيل المثال من خلال عمليّات النقل من مكان إلى آخر، الهجمات المفاجئة، الضجيج من الخارج، سياسة التعطيش والتجويع. باختصار، شعرتُ وكأنّه موت بطيء. كنّا معزولين عن العالم الخارجيّ، ولم تكن هناك زيارات من العائلات، الصليب الأحمر أو المحامين. عندما تمّ إطلاق سراحي في النهاية، قال لي المحامي إنّه قدّم ثلاثة طلبات لزيارتي، لكنّها رُفضت جميعًا.

من حين لآخر، كانوا يحضرون زوّارًا إسرائيليّين وصحفيّين إسرائيليّين ويظهرون لهم وضعنا وكيف ينكّلون بنا. وفي بعض الأحيان كانوا يدخلون بعضًا من هؤلاء الزوّار إلى الزنازين ويطلبون منّا أن نركع على الأرض وننحني في وضعيّة صعبة جدًّا ومهينة حتّى نهاية الزيارة. وأحيانًا كانوا يهاجموننا ويسخرون منّا.

لم يكن في الزنازين ما يساعد على تمضية الوقت، لا كتاب، لا قرآن، لا راديو، ولا حتّى ساعة لمعرفة مواعيد الصلاة. لم يكن بمقدورنا سوى أن نخمّنها بحسب الضوء الذي في الخارج، أو بحسب الساعة البيولوجيّة، أو من خلال تقدير الوقت الداخليّ. شعرنا بأنّ أجسادنا تتعفّن من كثرة الأوساخ. عانى البعض منّا من الطفح الجلديّ. لم يكن هناك نظافة صحّيّة. لم يكن هناك صابون، شامبو، فرشاة شعر أو مقصّ أظفار. بعد شهر ونصف تلقّينا شامبو لأوّل مرّة. كما لم تكن هناك موادّ تنظيف وكان من غير الممكن تنظيف الزنزانة أو المرحاض، أو غسل الملابس. بعد شهر ونصف أحضروا ممسحة مطاطيّة بدون عصا.

عندما كان أحد يمرض لم يتلقَّ علاجًا. بين الحين والآخر كان يأتي مسعف ويسأل السجناء عن آلامهم وأمراضهم، لكنّه لم يكن يفحصنا فعليًّا. كان فقط يتحدّث معنا من خلال فتحة صغيرة في باب الزنزانة، ويسأل السجين "ماذا لديك؟"، ثمّ يقترح عليه أن يشرب ماء أو يعطيه قرص أكامول. في آخر أسبوع أو عشرة أيّام من اعتقالي لم يحضر مسعف على الإطلاق. لتناول الطعام، حصلنا عند الظهر على وعاء من الأرزّ نصف المطبوخ لـ 14 سجينًا، إضافةً إلى قطعة واحدة من النقانق لكلّ سجين. وفي المساء حصلنا على قطعة من الجبن الأبيض، مع شريحة من الفلفل الأخضر، أو شريحة من البندورة. بالإضافة إلى ذلك، كان كلّ سجين يحصل على ستّ شرائح من الخبز في اليوم. حاولنا أن نحتفظ بجزء من وجبتي الغداء والعشاء، لكي يكون لدينا شيء في الصباح، لأنّه لم يكن هناك وجبات فطور.

شعرنا بأنّ أجسادنا تتعفّن من كثرة الأوساخ. عانى البعض منّا من الطفح الجلديّ. لم يكن هناك نظافة صحّيّة. لم يكن هناك صابون، شامبو، فرشاة شعر أو مقصّ أظفا

كانوا يأتون لإحصائنا ثلاث مرّات في اليوم. كان يتمّ ذلك بطريقة مهينة وكان مصحوبًا مع صيحات السجّانين. كانت الوحدة تدخل وهي مسلّحة بالغاز والهراوات بشكل مفرط. كان عدم الوقوف أثناء الإحصاء ممنوعًا منعًا باتًّا، ومن لم يمتثل لذلك كان يعاقب بالعزل أو بالضرب. خلال الإحصاء كان ممنوعًا علينا أن نتحدّث أو أن نفعل أيّ شيء، ولا حتّى أن نتحرّك. فمثلًا من حكّ أنفه راحت عليه. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك سياسة عقاب جماعيّ وتفتيش فجائيّ للزنازين مرّة واحدة في الأسبوع تقريبًا. كانوا يجبروننا على خلع ملابسنا، ثمّ يقومون بتفتيشنا، يُخرجوننا من الزنازين إلى الممرّ، ويقومون بإجراء تفتيش دقيق في الغرفة. كان من الممكن أن يستغرق ذلك ساعة أو حتّى عدّة ساعات وكان ينطوي على صراخ واعتداءات وضرب بالهراوات. عندما كانوا يريدون فرض عقاب جماعيّ علينا، كانوا يصادرون لنا الفرشات طوال ساعات النهار كلّها، من الساعة 6:00 صباحًا حتّى ساعات الليل. عاقبونا على أسخف الأشياء. مثلًا، كانوا يتحدّثون معنا بالعبريّة فقط، وكان علينا الردّ عليهم بالعبريّة فقط؛ وإذا أخطأ أحد منّا وتوجّه إليهم بالعربيّة، كانوا يفرضون علينا جميعًا عقابًا جماعيًّا.

لم يكن هناك خروج لجولة أو لاستراحة في الساحة، وكادت أرجلنا تصاب باليباس من كثرة الجلوس. كانت الزنزانة مكتظّة جدًّا ولم يكن من الممكن المشي فيها تقريبًا. طلبنا مرارًا وتكرارًا مقابلة ممثّل ما عن إدارة السجن، لكنّهم كانوا يرفضون ذلك دائمًا.

من يدخل السجون الإسرائيليّة، خصوصًا بعد 7 تشرين الأوّل، يُعتبر في عداد المفقودين أو الموتى. ومن يخرج من السجون يُعتبر كمَن وُلِد من جديد. كان هناك معتقلون ماتوا في السجن، كعرفات مثلًا، وكان هناك جرحى ومرضى بأمراض خطيرة لم يتمنّوا سوى أن تحلّ عليهم رحمة السماء. أنا أعتبر نفسي كمَن وُلِد من جديد لأنّني خرجتُ من السجن. تمّ إطلاق سراحي في 18.3.24. في العادة تستمرّ إجراءات الإفراج من الصباح حتّى قرابة الساعة 11:30. في اليوم الذي كان من المفترض أن تنتهي فيه مدّة اعتقالي الإداريّ لم يقرأوا اسمي في قائمة المُفرَج عنهم. بعد ذلك فهمتُ أنّهم كانوا ببساطة يتلاعبون بأعصابي عن قصد. بفضل خبرتي السابقة، افترضتُ أنّهم مدّدوا اعتقالي الإداريّ وفقدتُ الأمل في إطلاق سراحي. انتظرتُ أن أسمع كم مدّدوا لي.

الاعتقال الإداريّ هو أحد أسوأ الاعتقالات على الإطلاق. السجين غير متّهم بأيّ شيء، ولا توجد جلسات محكمة، ومن المستحيل معرفة متى سينتهي الاعتقال. يحدّدون للمعتقل فترة اعتقال لمدّة معيّنة، ثمّ يجدّدونها مرّة أو مرّتين أو عشر مرّات أو حتّى أكثر من ذلك. لذلك، فإنّ الصعوبة الأساسيّة في هذا النوع من الاعتقال هي الحالة النفسيّة للمعتقل، الذي يجلس وينتظر إطلاق سراحه ولا يعرف ما إذا كان ذلك سيحدث، أو ما إذا كانوا سيُجدّدون أمر الاعتقال له مرّة أخرى.

في ذلك اليوم، في الساعة 16:00، نادوا على اسمي فجأةً. لم يقولوا لي بأنّهم سيُطلقون سراحي، لذا دارت في ذهني شتّى الأفكار، على سبيل المثال أنّهم سيأخذونني إلى العزل. انقضَّ عليّ اثنان من السجّانين دون سبب وضربوني لمدّة 30 دقيقة، حتّى فقدت القدرة على الحركة. بعد ذلك أخذوني إلى سيّارة نقل السجناء وأدخلوني إلى قفص موجود فيه. كنتُ مقيَّدًا على النحو التالي: أصفاد حديديّة في رِجليّ، أصفاد في اليدين، وأصفاد بين اليدين والرِجلين. هذا الشكل من التقييد حنى ظهري وكان مؤلمًا. لكنّ الأسوأ كان الخوف. لم أعرف أين كانوا يأخذونني. استغرق السفر وقتًا طويلًا، لا أعرف كم، لأنّني فقدتُ القدرة على تقدير الوقت. وصلنا إلى منطقة مظلمة. أنزلوني من السيّارة ونزعوا الأصفاد عنّي؛ أجبروني على السير أمامهم، وهم يصوّبون سلاحهم نحوي. اعتقدتُ أنّهم سيقتلونني، لأنّه لا أحد يعرف ما الذي يحدث معي، وسيكون من السهل جدًّا الادّعاء بأنّهم أطلقوا النار عليّ لأنّني حاولتُ الهرب. قادوني يمنةً ويُسرةً. مشينا نحو 500 متر. اقتادوني إلى الحاجز، وبعد ذلك اكتشفتُ أنّه حاجز الظاهريّة. عندما وصلنا إلى هناك ألقوا عليّ كيسًا فيه أغراضي، بطاقة الهويّة، الملابس التي تبيّن أنها لم تُرمَ حقًّا، وهاتفي المحمول. قالوا لي "روِّح".

غمرَتني الفرحة عندما سمعتُ هذه الكلمة. شعرتُ بسعادة لم أشعر بها من قبل في حياتي، كأنّني وُلِدتُ من جديد. عبرتُ الحاجز وتقدّمتُ باتّجاه الظاهرية. لم تكن حينها مواصلات لأنّ الساعة كانت 21:00 أو 22:00. التقيتُ بالصدفة بأحد سكّان القرية، فأقلّني إلى مدينة الخليل. اتّصلتُ بإخوتي وطلبتُ منهم أن يلتقوا بي في رام الله. ذهبتُ إلى هناك بسيّارة أجرة ودفع إخوتي للسائق عندما التقوا بي هناك، ثمّ أخذوني معهم إلى البيت. وصلنا قرابة الساعة 1:30 ليلًا.

بعد إطلاق سراحي خضعتُ لفحوصات طبّيّة. اتّضح أنّني مصاب ببكتيريا ما. فقدتُ من وزني 15 كيلو تقريبًا. ما زلت أعاني من الغثيان وأحيانًا من القيء والأوجاع الشديدة في الأمعاء.

- سجّل الإفادة باحث بتسيلم الميدانيّ إياد حدّاد، في 7.4.24.