أقيم مع زوجتي وابنتينا بسمة (سنتان تقريباً) وأيلول (ثمانية أشهُر) في البلدة القديمة في الخضر، في بناية يُقيم فيها والداي أيضاً.
في يوم السّبت الموافق 20.1.24، نحو الساعة 1:00 بعد منتصف الليل، استيقظنا على أصوات خبطات وطرقات وأصوات أشخاص. لم تمض لحظات، وكنّا لا نزال في السّرير بعدُ، وإذ بضابط وأكثر من عشرة جنود - بعضهم ملثّمون - يدخلون إلى الشقّة، بعد أن اقتحموا باب المنزل بأدواتهم الخاصّة.
أمرنا الضابط بأن نخرج فوراً إلى غرفة الاستقبال فخرجنا بثياب النوم. قلت له إنّ ابنتينا في غرفتهما فأمرني أن آتي بهما أيضاً. دخلت مع زوجتي إلى غرفة البنتين، وكانتا لا تزالان نائمتين. حملتُ بسمة وحملتْ زوجتي أيلول، ثمّ عُدنا وجلسنا في غرفة الاستقبال.
سألني الضابط إن كان ثمة أشخاص آخرون في المنزل فأجبته بالنفي. أمرني بأن أجلب بطاقتي الهُويّة خاصّتنا وهاتفينا النقالين، وكذلك مصاغ زوجتي الذهبيّ والأموال التي معنا في المنزل. جلبنا كلّ ما طلبه.
أجرى الجنود تفتيشاً في الغرف استمرّ نحو عشر دقائق. بعد ذلك صوّروني وصوّروا زوجتي. أمرني أحد الجنود بأن أناول ابنتي بسمة لزوجتي، لأنّهم سيأخذونني معهم. سألتهم زوجتي إلى أين سيذهب فأجابها جنديّ "إلى السّجن". كبّل الجنود يديّ خلف ظهري بأصفاد بلاستيكيّة وعصبوا عينيّ بقطعة قماش ثمّ أمسكني جنديّان من كتفيّ واقتاداني إلى الطابق الأوّل. تركوا الأموال والذهب على الطاولة وخرجنا.
حاولت أن أتحدّث إليهم ولكن دون فائدة. كلّ ما سمعته منهم هو كلمة "اسكُتْ!"
عندما وصلنا إلى الشارع الرئيسيّ، قبالة المنزل، ألقى بي الجنود بعُنف في سيارة جيب عسكريّة فوقعتُ على أرضيّة الجيب ووجهي إلى أسفل. بعد ذلك صعد الجنود وكان معهم كلب. في داخل الجيب كانوا يدوسون ظهري ويركلونني، والكلب جالس إلى جانبي.
أخذني أفراد القوّة إلى حاجز عسكريّ. أعتقد، وفقاً للمسافة التي قطعناها، أنّه حاجز الـ DCO (بيت جالا). كانت السّفرة قصيرة جدّاً، نحو أربع دقائق. جرّني الجنود وأوقعوني من الجيب. ركعت على ركبتيّ ثمّ أمروني بأن أنهض. حين نهضت انهال عليّ الجنود ضرباً بأيديهم وأعقاب بنادقهم وركلاً في كلّ أنحاء جسمي.
حاولت أن أتحدّث إليهم ولكن دون فائدة. كلّ ما سمعته منهم هو كلمة "اسكُتْ!". انقضّ عليّ عدّة جنود يضربونني بطريقة عنيفة ومؤلمة جدّاً. وقعت أرضاً أكثر من مرّة، من شدّة الألم، وفي كلّ مرّة كان الجنود يرفعونني ويستأنفون ضربي. كانوا أيضاً يشتمونني ويقولون لي "أنتم، الفلسطينيّون، يجب أن تموتوا". سال الدّم من أنفي وفمي وأحسست بآلام شديدة في رجليّ وظهري.
بعد مضيّ نحو ساعة رمَوني مرّة أخرى وبعُنف إلى داخل مركبة عسكريّة. في هذه المرّة أخذوني إلى مكان آخر فهمت لاحقاً أنّه معسكر "عتصيون" الواقع جنوب بيت لحم. تقديري أنّ السّاعة كانت تقريباً 2:30 بعد منتصف اللّيل.
ضربوني ببنادقهم في كلّ أنحاء جسمي، تارة بأعقاب البنادق وتارة بفوهاتها، كما ركلوا ظهري وأضلُعي في كلا جنبيّ
عندما وصلت إلى هناك جرّني الجنود على الأرض إلى ساحة، وهناك أجلسوني على الأرض. كانوا يُجبرونني على الاستلقاء على بطني، وأحياناً على ظهري. ضربوني ببنادقهم في كلّ أنحاء جسمي، تارة بأعقاب البنادق وتارة بفوهاتها، كما ركلوا ظهري وأضلُعي في كلا جنبيّ.
لم يعُد بوُسعي تحمّل ذلك. طلبت من الجنود مراراً وتكراراً أن يتوقّفوا، لكنّهم في كلّ مرّة تعمّدوا ضربي أكثر وبعُنف أشدّ. أحسست بأنّ أضلُعي تتكسّر. كنت طوال الوقت مكبّل اليدين ومعصوب العينين ومع ذلك كان لديّ إحساس بأنّ أحدهم يصوّر ما يجري. استمرّ الأمر هكذا، تارة يهجمون عليّ وتارة يتركونني، حتى السّاعة 5:30 صباحاً.
بعد ذلك اقتادوني إلى المعتقل. أدخلوني إلى غرفة وهناك أجبروني أن أخلع ملابسي لكي يُفتّشوني عارياً. كان دمٌ في فمي ودمٌ يسيل من رجليّ، وكانت يداي قد تورّمتا لأنّ الأصفاد البلاستيكيّة كانت مشدودة بشكل مبالغ فيه. أجبروني عدّة مرّات أن أنحني عارياً فطغى عليّ شعور بالمهانة. جاء طبيب إلى الغرفة وقلت له إنّني مُنهك من كثرة الضرب لكنّه لم يُعرني أيّ اهتمام.
كنت قد وصلت إلى حالة لا أقوى فيها على الحركة. لذلك جرّني الجنود جرّاً إلى ساحة المعتقل وجاءوا باثنين من الأسرى لكي يجرّاني إلى داخل الزنزانة. عندما تفقّدت جسمي رأيت جروحاً وكدمات في كلتي رجليّ.
كنت طوال الوقت مكبّل اليدين ومعصوب العينين ومع ذلك كان لديّ إحساس بأنّ أحدهم يصوّر ما يجري
كان رقم الزنزانة التي أدخلوني إليها 1. مساحتها 5x3 أمتار وكان فيها من قبلي عشرة أسرى وعشرة أسرّة. كنت الأسير الحادي عشر وبالتالي كان على أحدنا أن ينام على فراش أرضيّ. كنّا نفعل ذلك بالتناوُب بحيث ينام عليه أسير آخر كلّ ليلة. كانت لكلّ أسير فرشة رقيقة جدّاً وبطّانيّتان، ولم تكن هناك مخدّات. تجمّدنا من البرد لأنّهم نزعوا درْفات زجاج النوافذ في الزنزانة والمرحاض. طوال الوقت كان يدخل تيّار من الهواء البارد ولم تكن البطّانيّات دافئة بما يكفي. كان المرحاض عفناً ولم تتوفّر لدينا موادّ تنظيف.
في الصّباح الأوّل، بعد وجبة الفطور التي كانت عبارة عن قليل من الخُبز وعُلبة لبن صغيرة لكلّ أسير، كبّلوا يديّ واقتادوني إلى مركز التحقيقات.
أدخلوني إلى غرفة التحقيق ويداي مكبّلتان، وأزالوا العصبة عن عينيّ. كان هناك محقّقان اثنان، واحد عرّف نفسه باسم "يوسف" والآخر باسم "يعقوب". قال لي الأوّل إنّه مسؤول "الشاباك" في مدينة بيت لحم. حقّقا معي حول حيازة سلاح وزعم الضابط أنّه عثر على سلاح خلف منزلي. أنكرت هذه التهمة.
بعد ذلك أعادوني إلى المعتقل واحتجزوني هناك لمدّة 9 أيّام. كان يُسمح لنا بالاستحمام ولكن بدون صابون، وكانت هناك منشفة واحدة لجميع أسرى الزنزانة، أي لـ11 شخصاً. لم نغيّر ملابسنا لأنّه لم يكن لدينا غيرها. كانوا يجلبون لنا ثلاث وجبات في اليوم، وكنّا نتناول الطعام في السّاحة، وقد خصّصوا لذلك عشر دقائق فقط. كان الطعام رديئاً للغاية، والكميّة لم تكن كافية لإطعام نصف الأسرى حتى.
كان يُسمح لكلّ أسير بتدخين سيجارة واحدة أو اثنتين في اليوم. عندما كان الجنود يأتون لإجراء العدد كانوا يأمروننا بأن نقف أحياناً وبأن نركع أحيانًا أخرى ووجوهنا نحو الحائط. كان الجنود يأتون ويطرقون أبواب الزنازين دون أيّ سبب.
أذكر أنّ أسيراً من مخيّم نور شمس للّاجئين كان مجروحاً في رُكبته. اعتُقل بُعيد إصابته بالجُرح. كان يصرخ طوال اللّيل من شدّة الألم لكنّهم لم يقدّموا له أيّ علاج طبّي. معظم الأسرى في الزنزانة ضُربوا قبل جلبهم إلى المعتقل، خلال عملية اعتقالهم.
في 30.1.24 نقلني عناصر وحدة "نحشون" إلى سجن "عوفر" لمدّة يوم تقريباً. اقتادوني مكبّل اليدين والرّجلين بأصفاد معدنيّة وأدخلوني مع 18 أسيراً إلى شاحنة مقاعدُها حديديّة ومقسّمة بحواجز من حديد. وكان معهم كلب.
في سجن "عوفر" فتشونا ونحن عُراة وصادروا ملابسنا. أعطونا ملابس لونها بنّي (زِيّ السجّناء) - قميص وبنطلون. حصلت أيضاً على منشفة وعُبوة معجون أسنان صغيرة وقطعة صابون وسروال داخليّ.
أذكر أنّ أسيراً من مخيّم نور شمس للّاجئين كان مجروحاً في رُكبته. اعتُقل بُعيد إصابته بالجُرح. كان يصرخ طوال اللّيل من شدّة الألم لكنّهم لم يقدّموا له أيّ علاج طبّي
أدخلوني إلى زنزانة رقم 9 في القسم 26. كان في الزنزانة 12 أسيراً وثمانية أسرّة - أي أنّ أربعة أسرى ناموا على فراش أرضيّ. كانت لكلّ أسير فرشة رقيقة وبطّانيّتان. لم تكن لدينا ملابس إضافيّة - قميص وبنطلون فقط لكلّ واحد. كان البرد شديداً والنوافذ بدون زجاج. لم تكن الزنزانة مجهّزة بأيّ شيء، مثل أدوات مطبخ، كتب أو أقلام. كانوا قد صادروا كلّ شيء قبل أن أصل. كذلك صادروا منّا الأحذية وأعطوا لكلّ أسير حذاءً بلاستيكيّاً.
كان انطباعي أنّ السّجون عادت إلى الظروف التي كانت تسود فيها في السبعينات. كانوا يفصلون الكهرباء عن مصابيح الإنارة من السّادسة صباحاً وحتى السّادسة مساءً، وبالذات في اللّيل كانوا يمنعوننا من إطفاء الأنوار. كان الحمّام داخل مبنىً في السّاحة وقد أزالوا باب المبنى. كان الماء السّاخن متوفّراً ولكن كنّا نضطرّ بعد الحمّام إلى ارتداء الملابس نفسها. الطعام كان رديئاً للغاية. وبالنسبة إلى الأسرى المرضى، ما فهمته أنّ أيّاً منهم لم يتلقّ أدوية، سوى مرضى السكّري.
خلال اليوم الذي أمضيته هناك أجروا العدد أربع مرّات، وكان علينا أن نقف خلال ذلك.
في اليوم التالي، قرب منتصف اللّيل، أطلق سراحي. أقلّوني وحدي في مركبة "جيب"، مكبّلاً، إلى حاجز الجيب في رام الله وتركوني هناك. كان الطقس ماطراً والبرد شديداً. لحُسن حظّي مرّت من هناك سيّارة فيها رجُل وزوجته، فأقلّاني معهما. أخذاني في البداية إلى منزلهما حيث استبدلت ثيابي وبتّ تلك اللّيلة عندهما.
في الصّباح أقلّني الرّجُل إلى محطّة سيّارات أجرة ومن هناك سافرت إلى منزلي. لدى وُصولي إلى المنزل أخذني أفراد من العائلة إلى مستشفى الحسين الحكوميّ حيث أجروا لي فحوصات وصور أشعّة، كما عالجوا الكدمات الناجمة عن الضّرب الذي تلقّيته في جميع أنحاء جسمي. ما زلت أستريح في المستشفى.
قالت لي زوجتي إنّ الجنود الذين بقوا في المنزل بعد اقتيادي إلى المعتقل قد فتّشوا شقّتنا وشقّة والديّ وعاثوا خراباً في المنزلين بما في ذلك تكسير أثاث. لم يُعيدوا لنا هاتفي وهاتف زوجتي النقّالين، حتى اليوم.
* سجّل الإفادة باحث بتسيلم الميدانيّ باسل العدرا في 1.2.24