سماح بصول /فارءه معاي - 1/4/2024
في شباط الأخير، أُعلن عن ترشيح رواية "قناع بلون السماء" للأسير باسم خندقجي لجائزة البوكر- جائزة الرواية العربيّة والتي ستُعلن نتائجها في الثامن والعشرين من أبريل/ نيسان الحالي. هذه الرواية رأت النور من قلب عتمة سجن "مجيدو" سنة 2021، وهي ذات السنة التي أعلن فيها 6 أسرى عن تحررهم بقواهم الذاتية من الأسر في سجن "جلبوع" وشغلوا كلَّ فلسطينيّ بمفهوم التحرّر.
تمكّن الأسير خندقجي بمساعدة الداعمين من خارج جدران السجن – وفق ما يصرّح به في نهاية الرواية- من الحصول على المواد اللازمة لجعل روايته مثيرة غنية بالتفاصيل والأماكن والتواريخ والأحداث، وقدّم لنا عملًا أدبيًا ممتعًا ومحيّرًا ومغامرًا ومراوغًا يعالج فكرة الأسر بطرق تحتال على المباشرة.
يختار حكاية تدور حول الآثار والمجدلية، ويختار بطلًا مهووسًا بدقة التفاصيل. في كل تفصيل يحصل عليه البطل عن المجدلية نحصل نحن على تفصيل عن كيفية الحياة المقيّدة بالمفاهيم والمعلومات والأماكن، نبحث عن أنفسنا داخل نصوص فرانز فانون التي يتبناها نور الشهدي.
في روايته التي منحها اسم "قناع بلون السماء" يروي خندقجي حكاية نور الشهدي، ابن المخيم، ابن الأسير المُحرر، الذي يعثر في جيب جاكيت اشتراه من سوق في يافا للملابس المستعملة على بطاقة هوية إسرائيلية، يحوّلها الى بطاقته الشخصية ويتقمص هوية صاحبها أور شابيرا ليتمكن من التجوّل في أرجاء الأرض المحتلة بحثًا عن سر مريم المجدلية أملا في أن ينتهي من كتابة روايته التي تدور حول هذه المرأة التي طالما أثارت جدل العلماء والمؤرخين.
يبدأ خندقجي روايته من الأسر داخل هوية، والحاجة إلى التصنّع والكذب والحيلة لنيل قسط من الحريّة. ثم ينطلق للحديث عن الأسر الحقيقي، السياسيّ الذي نعرفه ولا نعرفه، يحكي لنا عن الصلابة مقابل الألم المكتوم، يحكي عن خيبة الأمل بعد التحرر ويكتب جهارًا "الأسير المحرر يموت على مراحل" (ص. 76) ليوجه نقده الى المجتمع وكيفية تعامله مع عائلة الأسير، والى القيادات التي تعتلي كتف الأسرى لتبقى على رأس الهرم، والى السلطة وقرارتها المهينة وعلى وجه الخصوص اتفاقية أوسلو. رام الله هي القناع (ص.75) يكتب، ونعي تمامًا مقصده وكيف حوّلت الاتفاقية حياة الناس إلى كذب وزيف لإشغالهم عن النضال.
على الرغم من تحرّر خندقجي المؤقت من أسره الفعلي الى حرية الكتابة وفضاء النص، إلا أن بطله نور الشهدي أسير صداقته لمراد وهو أسير سياسيّ، وهو كذلك أسير داخل شخصية أور شابيرا وقواعد اللعبة داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو أسير الحياة داخل المخيم، وأسير انتمائه إلى عائلات الأسرى المحررين، وأسير الحياة داخل حجرة في المخيم وداخل حجرة في بيت الشيخ مرسي في القدس، وداخل حجرة في معقل المنقبين عن الآثار في مستوطنة، ومن كل هذه الحجرات يسجل خطاباته الى صديقه مراد الأسير في حجرة داخل سجن الاحتلال.. في كل حجراته كان نور الشهدي في عزل انفرادي!
يختار أن يضع فلسطينيًا لاجئًا كمرآة لليهودي القادم من أوروبا، يتحداه ويسير معه في طريق لا تحتمل نهايتها إلا واحدا منهما. لا يبخل الكاتب علينا بسرد التاريخ، يستحضر المسيح وتلاميذه، ثم ينطلق نحو احتلالات الأرض المقدسة، ويصل بنا الى تل مجيدو حيث سيُعلن عن القيامة.
رغم ما يبدو أنه حكاية نور الشهدي والرواية التي يكتبها ويريدها أن تنافس حكاية دان براون عن المجدلية والأغراض المقدسة وعطر الناردين، إلا أنه يبقى رهين الإخلاص لقضيته، فيأتي بوالد البطل أسيرًا محررًا مصابًا بالخذلان، ويدعمه بمراد الأسير الذي يجعلنا نشاهد صور العائلات التي تعتلي الحافلات خلال أيام الزيارة القليلة المتاحة من وراء حاجز، نتابع طلبات الأسرى خلال أحاديث الزيارات، نقرأ معهم ما طلبوه من كتب، نبتسم لنمنحهم صورًا حديثة لأحبتهم، ونخفي في قلوبنا رسائلهم المهربة.
نحن لا نعرف شيئًا عن حياة الأسر! لكن رسائل خندقجي المبطنة لنا عن فكرة المحاصرة داخل غرفة وكيفية الصمود والبقاء فيها تتجلى من خلال أحاديث نور الشهدي وكتاباته، فيقول "السجن لا سماء له" (ص.148) لكن ذلك لا يمنعه من رؤية السماء لأنه يصر على أن حريّة العقل أوسع مساحة من الجسم فيقول "حيث الذهن هناك الكنز" (151). قد توهم التفاصيل الصغيرة بعضنا أننا احرار، لكننا في الواقع أسرى الحياة اليومية وانشغالاتها، أسرى الوصم والتنميط، أسرى الأقنعة سريعة التبدل، فنور الشهدي كان ولدًا ذا ضفائر شقراء طويلة دفعت أترابه في المدرسة ينادونه "نورا"، أسقط نور ذلك القناع عن نفسه وقام بقصّ ضفيرتيه، وفي شبابه اتخذ قناع المتعفف عن النساء الذي كان يسقط عند انفراده بنفسه، ثم لبس قناع عدوّه ومنح قناعه اسمًا وبطاقة هوية سقطت كلها عنه في لحظة حقيقة واحدة عندما فرّقت صواريخ المقاومة مسيرة الأعلام الاستيطانية في قلب مدينة القدس. لم يتمكن نور من التصنع في تلك اللحظة وخاطر بالكشف عن وجهه الحقيقي على مرأى سماء الحيفاوية التي تعاني كمئات آلاف من فلسطينيي الداخل من الأسر داخل وصم الأسرلة الذي سرعان ما يبدو هو الآخر قناعًا قنّعهم به من لم يريدوا فتح أعينهم ورؤية الامتداد الفلسطيني على طول الخط الوهمي الأخضر.
تقول لنا هذه الأسطر كثيرًا حول الأسر، أفكار وأحداث تناثرت فوق صفحات الرواية التي تتعدى مائتين وخمسين، علينا جمعها وإعادة قراءتها لتتركب أمامنا صورة لأهم رسائل خندقجي المهربة ما بين السطور: نحن أسرى لجوء لن ينفرج إلا بالعودة.
صحافية وناقدة سينمائية