هناك من يأكلني..

  

هناك من يأكلني..

عيسى قراقع - الوزير الاسبق لهيئة شؤون الاسرى والمحررين

عندما سألت صديقي الذي أفرج عنه مؤخراً من سجون الاحتلال الإسرائيلي عن أحوال السجن، ‏صمت قليلا ثم قال: كان هناك من يأكلني، يقضم لحمي، ويقشّر جسمي شيئاً فشيئاً، يسلخني، ‏يفتت لحمي وعظمي، ويسيل الدم والقيح، دمامل تهاجمني ليل نهار، لا أعرف طعم النوم، آلام ‏شديدة وأوجاع وحمّى، إنه مرض الجرب الصهيوني الذي انتشر في سجون ومعسكرات الاحتلال، ‏بسبب قلة النظافة والمنظفات، وانعدام الماء والهواء والعلاج والملابس وقلة الغذاء. صديقي قال: ‏هذا هو السجن، الجرب أشد خطراً من الجوع والضرب، هناك من يأكلك، وأنت تأكل نفسك.‏

مرض الجرب أصبح أداة تعذيب، يغزو الأسرى ويأكل جلودهم، ويسبب لهم تقرحات دموية تزداد ‏شراسة والتهاماً طالماً لا يوجد علاج، حكة شديدة، طفح جلدي، حساسية، وهو مرضٌ قد يؤدي إلى ‏تسمم الدم، وأمراض القلب، ومشاكل في الكلى، وأمراض الجدري، وينتشر بسرعة، وله مضاعفات ‏خطيرة، استهتار متعمد بحياة وصحة الأسرى، سجانون وأطباء يعملون في دولة مريضة مصابة ‏بالجذام، تنشر السموم والأوبئة في صفوف الأسرى، ديدان وحشرات تأكل اللحم البشري، صمتلٌ ‏مذلّ وتقاعس دولي شبه كامل، ينذر حقاً بمرض خطير فكري وإنساني على مستوى الكون، إنه ‏الميكروب الذي يأكل العقل واللسان ويمحو الكلام.‏

هناك من يأكلني، وحش ينشب أظافره في داخلي، ينهشني، ليس فقط القنابل والصواريخ المصبوبة ‏ناراً وجحيماً فوق رؤوس الناس في غزة، وليس فقط التجويع والتعذيب والضرب والتنكيل والإهانات ‏والاغتصاب والإعدامات، ليس فقط هذه السياسة الممنهجة الهادفة إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، ‏وحرمانه من كل مقومات الحياة، ليس فقط تحويل قطاع غزة إلى مستنقع للجثث والأمراض، بعد ‏تدمير معظم المنظومة الصحية في القطاع، ليس فقط التشرّد والنزوح والرعب والبؤس، إنها حرب ‏الجرب الصهيونية التي تشنها دولة جرباء على الشعب الفلسطيني، جراثيم صهيونية تضع بيوضها ‏القاتلة في أنحاء الأرض كلها، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، قبر هائل ونوع آخر من الموت، الموت ‏الحي، اليقظ، الموت بالجرب. ‏

يقول صديقي الأسير المحرر: كان هناك من يأكلني، يخترق طبقة جلدي، يحفر في جسمي، فيحدث ‏جحوراً وخنادق صغيرة، ينهار الجلد ويحترق، شعرت أني التهب ألما في كل منطقة في جسدي، ‏بثور وتقرحات في اليدين والخاصرة، في الوجه، حول الأعضاء التناسلية، وفي الرقبة، في فروة ‏الرأس وتحت الإبطين، في الصدر وحول الحلمات والسرّة، بين أصابع اليدين والقدمين، هناك ‏سوسٌ يعمل أنفاقاً في جسمي، فتظهر قشور وحراشف حمراء، يتغذى هذا السوس على دمي ‏وجروحي، يزداد عربدة ووخزا، يلسعني، ما أطول الليل وأنا أمزع جلدي عن بدني، وأسأل عندها ‏جسمي: من يحتلك ومن يحتلني؟ لا يرد ولا يصغي. 

ماذا سيكتب العلماء والجيولوجيون والمؤرخون عن عصر الدولة الصهيونية الجرباء التي حلت في ‏منطقة الشرق الأوسط، واغتصبت المكان والزمان والتاريخ، ومسحت الحضارات الإنسانية من الوريد ‏إلى الوريد؟ وأعدمت كل تطور وتقدم وثقافة، هدمت الأرض والإنسان ومقومات العدالة الكونية. ‏ربما سيعودون إلى الوراء ليكتشفوا أن الأوبئة غيرت مسار البشرية على مدار التاريخ، وأن وباء ‏الجرب الصهيوني المستفحل هو الموت الأسود الذي يهدد العالم الآن، ليس الطاعون ولا الإنفلونزا ‏ولا الإيدز ولا الكورونا، وإنما وباء الجرب الصهيوني الذي يحمل في داخله كل الآفات والأمراض، ‏مرض الإبادة والفاشية والعنصرية، مرض الكراهية والشرور، وقد أصبح الجرب مرض أيديولوجي ‏أصاب الدولة الصهيونية، فتتهيج سلوكياً ونفسياً وعسكرياً، وتتصرف بأشكال عديدة من الإرهاب ‏المنظم، تدافع عن الشذوذ الأخلاقي والمحرم دولياً، وتسوّغ ممارسته، وتتعامل معه كعقيدة وفلسفة.‏

إنها لحظة التحول في كل النظريات العلمية السياسية، انهيار النظم والأخلاقيات والثقافات، مرض ‏مركب نفسي وعقلي، يجدر بعلماء النفس أن يجدوا له اسماً خاصاً، وعلاجاً خاصاً، أن توضع الدولة ‏الجرباء في مستشفى المجانين وفي مصحات المنبوذين، أن تقاطع وتحجر صحياً، وتنزع عنها ‏صفة عضو في الأمم المتحدة، إنه مرض العار العالمي، وولادة التوحش الحديث.‏

يتابع صديقي الأسير المحرر: هناك من يأكلني، تارة يستخدمونني درعاً بشرياً أمام المجنزرة ‏العسكرية خلال الاقتحامات في قطاع غزة، وتارة تسري الكهرباء والصدمات اللاسعة في جسدي ‏وأنا أجلس على كرسي التعذيب، ارتعش وارتجف حتى يغمى عليّ، وتارة يعلقونني في ماسورة ‏بالمقلوب، كل بساطيرهم المدببة تركت آثاراً على وجهي وصدري، أضلاعي مكسورة، غرغرينا في ‏جروحي التي تنزف بين الأصفاد الحادة، أجبروني على الزحف والنباح، وتقليد أصوات الحيوانات، ‏مربوط على مدار الساعة عارياً حافياً جائعاً مريضاً، وهناك سجان أجرب يأمر بإطلاق النار على ‏رأسي، وآخر يقرأ من التلمود آيات الذبح المقدسة، ويأمر بسلخي واغتصابي، الكلاب الجرباء ‏تعضني وتخمشني، ولا زال الدود ينخر عظمي، كابوس طويل، المكان مليء بالغربان، أظافري ‏تحك جسدي الذي أصبح عبئاً على نفسي، أنا حيّ، لكني أشم رائحة جثتي.‏

هل للجحيم دولة تشبه دولة إسرائيل؟ الهستيريا والحقد، دولة تفقّس كل أمراض الدنيا في جسم ‏العالم، أمراض السفالة، والوساخة، والفاشية، والانحطاط، والعفونة، والطغيان، دولة جمدت المشاعر ‏الإنسانية على مدار تسعة شهور من هذه الحرب الدموية. ما هذا الحياد المرعب الذي أصاب عقل ‏العالم؟ البرودة التي تتم فيها الفظائع الصهيونية، إنهم رجال الدولة الجرباء، رجال الدولة ‏الصهيونية الدينية الغوغائية الذين تعلموا وتحولوا ليكونوا وحوشاً ومرضاً فتاكاً، وجاهزين للتدمير ‏والتخريب والقتل. نسمعهم يقولون: يجب أن لا يموت الفلسطينيون فقط، بل يجب أن ينقرضوا. ‏

أيها الطبيب: هناك من يأكلني..‏...
ماذا سيكتب العلماء والجيولوجيون والمؤرخون عن عصر الدولة الصهيونية الجرباء التي حلت في ‏منطقة الشرق الأوسط، واغتصبت المكان والزمان والتاريخ، ومسحت الحضارات الإنسانية من الوريد ‏إلى الوريد؟ وأعدمت كل تطور وتقدم وثقافة، هدمت الأرض والإنسان ومقومات العدالة الكونية.