خليل سكيك (24 عاماً) طالب يدرس الطبّ، من سكّان حيّ الرّمال في مدينة غزّة

  

بتسيلم-23/6/2024

أنا طالب جامعيّ، أدرس الطب في السنة السادسة، أقيم مع والديّ وإخوتي في حيّ الرّمال في مدينة غزّة. في 7 أكتوبر كنت في المنزل وقد استيقظنا جميعنا لسماع دويّ الصّواريخ وانفجارات القصف. بعد مضيّ يومين، في 9.10.23، أمر الجيش سكّان الحيّ بأن يُخلوه وينتقلوا إلى جنوب القطاع، لكنّنا بقينا في المنزل ولم نخرج. في ذلك اليوم قُصف منزلنا ونحن في داخله. البناية التي نقيم فيها مؤلّفة من ثلاثة طوابق وكان فيها عشرة أشخاص تقريباً. تمكّنا جميعاً من تسلّق أنقاض المبنى والخروج سالمين. حتى جدّتي، معزّز اسكيك (80 عاماً)، لكنّها توفّيت لأسباب طبيعيّة لاحقاً، في شهر آذار.

بقينا في الجُزء الغربيّ من مدينة غزّة وتنقّلنا هناك من مكان إلى آخر أكثر من عشر مرّات، بسبب القصف الجوّيّ والقصف المدفعيّ الكثيف. نزحنا نحو 10 مرّات في منطقة غرب غزّة. ولكن لم يكن في مدينة غزة أو في القطاع أيّ مكان آمن. كنّا ننتظر موتنا في كلّ دقيقة تمرّ. المجاعة في شمال القطاع استشرت وكنّا نجد صعوبة بالغة في الحصول على شيء نأكله. أكلنا القليل جدّاً. كانت تلك فترة عصيبة بالنسبة لي ولأفراد أسرتي.

فوجئت بنيران تُطلق نحوي من دبّابة كانت تقف عند بوّابة المستشفى. أصبت بجُروح طفيفة وسطحيّة في الرأس وقُطع إبهام يدي اليُمنى

ابتداءً من شهر كانون الثاني تطوّعت كطبيب في مستشفى الشفاء لمعالجة الجرحى. كان يصل إلى المستشفى أشخاص مع إصابات صعبة جدّاً: أطراف مبتورة، إصابات من الرّصاص الحيّ، إصابات من شظايا صواريخ، وحُروق. وبالطبع وصل أيضاً شهداء كثيرون، وخاصّة من الأطفال والنساء، وكانت جثث بعضهم أشلاء.

في 18.3.24، بعد أن مرّت على تطوّعي هناك ثلاثة أشهر، بينما كنت جالساً مع أطبّاء آخرين نتناول وجبة السّحور سمعنا دويّ طائرات وهدير دبّابات وإطلاق نيران كثيفة. ثم إذ بنا نُفاجأ بالجيش الإسرائيليّ على مدخل المستشفى. تجمّعنا - الأطبّاء والممرّضين - في غرفة واحدة ورُحنا نتابع الأخبار لكي نفهم ماذا يجري هناك. هاتفتُ والديّ لكي أطمئنهما أنّني بخير. حاصر الجيش المستشفى ولم نخرج من البناية. بقينا على هذا الحال حتى 21.3.24 حين اقتحم الجيش المستشفى. حقّق الجنود مع الأطبّاء، بمن فيهم أنا. فحصوا بطاقات هُويّاتنا وسألوا عن العمل، عن الأقسام في المستشفى، عن "مخرّبين" ومسلّحين. لاحقاً، أمرني الجنود بالخروج من المستشفى. ولكن عندما خرجت، نحو السّاعة 15:00، فوجئت بنيران تُطلق نحوي من دبّابة كانت تقف عند بوّابة المستشفى. أصبت بجُروح طفيفة وسطحيّة في الرأس وقُطع إبهام يدي اليُمنى.

قفلتُ عائداً إلى المستشفى، كمُصاب في هذه المرّة، وتمّت معالجتي. في 23.3.24 سمح الجيش للمرضى بأن ينتقلوا من مستشفى الشفاء إلى المستشفى الأهلي (المعمداني) في حيّ الزيتون، لكنّهم أوقفوني، ربّما لأنّني لم أكُن مسجّلاً هناك كمُصاب، بعدُ. أمرني الجنود بخلع جميع ثيابي عدا السّروال الدّاخليّ، ثمّ كبّلوا يديّ وعصبوا عينيّ وأخذونا من هناك في شاحنة. اعتُقل معي سبعة مرضى من المستشفى.

حاولت أن أقول للجنود إنّ فكّي قد كُسر فما كان منهم إلّا أن انهالوا على وجهي ضرباً وركلاً

طوال الطريق كانوا يضربوننا ضرباً مبرّحاً بالبنادق، ويدوسون عدّة مواضع في أجسادنا ويشتموننا. كان معهم أيضاً صواعق كهربائيّة هاجمونا بها في كلّ أنحاء الجسم. وصلنا إلى مركز اعتقال. لم أعرف في أيّ مكان هو ولا اسمه. عندما أنزلونا من الشاحنات أوقعوني أرضاً على وجهي. أصبت في الفكّ وأحسست أنّه كُسر، كما انخلع عدد من أسناني. امتلأ فمي دماً. حاولت أن أقول للجنود إنّ فكّي قد كُسر فما كان منهم إلّا أن انهالوا على وجهي ضرباً وركلاً. احتجزونا في المعتقل مدّة ساعتين لم يتوقّفوا خلالها عن ضربنا وإهانتنا.

بعد ذلك نقلونا إلى معتقل آخر، لا أعرف أيضاً أين هو وما اسمه. ضربونا وشتمونا طوال الطريق إلى هناك. عندما وصلت إلى المعتقل فحصني طبيب، وقد شرحت له وضعي. قال إنّني سوف أتلقّى العلاج. أعطونا هناك بدلات رماديّة لكي نرتديها. طوال الأسبوع الأوّل هناك لم أكن قادرًا على المضغ ولذلك لم أتناول أيّ طعام سوى سائل له طعم "شوكو" مخلوط بالماء. إضافة إلى ذلك كانت يداي مقيّدتين إلى الأمام وعيناي معصوبتين. وكان الدم يسيل من فمي طوال الوقت. كانوا يُفلتون علينا الكلاب، كما سمعتُ كيف كانوا يضربون الأسرى القريبين منّي، بشدّة.

بعد نحو أسبوع أخذوني إلى المستشفى في سيّارة إسعاف. لم يقولوا لي أيّ مستشفى هو ولا أين يقع. أجريت لي هناك عمليّة جراحيّة وكنت أثناءها معصوب العينين واطرافي الأربعة مقيّدة إلى السرير. لا أعرف كم استمرّت العمليّة لأنّهم أجروها وأنا تحت التخدير الكلي. لم يُخبروني ماذا فعلوا خلال العملية الجراحية، بل لم أكن حتى متأكّداً من أنّهم أجروا لي عمليّة جراحية. لكنّني أحسست أنّهم وضعوا لي خيوطاً معدنيّة في فمي. بعد العمليّة بقيت في المستشفى خمسة أيّام تقريباً، وكنت طوال تلك الفترة عارياً تماماً، سوى من حفاض ألبسوني إيّاه، وظلّت عيناي معصوبتين وأطرافي الأربعة مقيّدة. وكان غذائي الوحيد سائلاً بطعم "شوكو".

بعد ذلك أعادوني إلى المعتقل. أجبروني على الجلوس أرضاً بيدين مقيّدتين وعينين معصوبتين. لم يكترثوا أبداً لوضعي الصحّي الصعب. كان مسموحاً أن ننام فقط 6 ساعات في اللّيل، وأحياناً كانوا يوقظوننا خلالها بالطرْق على السياج ونُباح الكلاب. كان في المعتقل مرحاض واحد لـ120 شخصاً فكنّا ننتظر في طابور لكي ندخل المرحاض. كانوا يجلبون لي الطعام ثلاث مرّات في اليوم - سائل بطعم "شوك". كنّا نستحمّ مرّة أو مرّتين في الأسبوع، لمدّة دقيقتين، وكانوا يُدخلون كلّ أربعة أسرى ليستحمّوا معاً.

بعد العمليّة بقيت في المستشفى خمسة أيّام تقريباً، وكنت طوال تلك الفترة عارياً تماماً، سوى من حفاض ألبسوني إيّاه، وظلّت عيناي معصوبتين وأطرافي الأربعة مقيّدة

في 1.5.24، عند الساعة 2:00 بعد منتصف اللّيل، نادوا اسمي ثمّ أخذوني مع 72 شخصاً آخرين في حافلة إلى معبر كرم أبو سالم. وصلنا إلى الجانب الفلسطينيّ للمعبر وهناك استقبلنا موظفون من الصّليب الأحمر ووكالة غوث اللّاجئين.قدّموا لنا إسعافاً أوّليّاً وأعطونا طعاماً وماءً للشرب. ولأنّ عائلتي كانت ما تزال في شمال القطاع ذهبت إلى منزل عمّتي الذي تقيم فيه بالإيجار بعد أن نزحت مع أسرتها من غزّة.

بعد ذلك، وبسبب اجتياح منطقة رفح عدّة مرّات، نزحت مع عمّتي وأسرتها إلى منطقة الزوايدة في وسط القطاع. ما زلنا هُنا إلى الآن، نقيم في خيمة وظروف حياتنا صعبة للغاية، لكنّها تظلّ أخفّ وطأة من ظروف السّجن. ما زلت أحتاج إلى عمليّة جراحيّة في الإبهام وعمليّة أخرى لتثبيت عظام الفكّ وزراعة أسنان وعمليّة تجميلية. الإمكانيّات هنا محدودة جدّاً وإجراء زراعة الأسنان غير ممكن.

عُدت إلى العمل في مستشفى العودة في مخيّم النصيرات للّاجئين، لكي أتمّم ساعات التطبيق العمليّ ضمن دراستي. الوضع في مستشفى العودة كارثيًّ، هنالك نقص في جميع أنواع العلاجات، ومعظم الاحتياجات لا يمكن تلبيتها. أنا أعمل في قسم الولادة وأرى أنّ حالات الإجهاض والولادة المُبكرة تحدث بنسبة عالية. الكثير من النساء يصلن مُصابات بسوء التغذية والجفاف.

مازال والداي في شمال القطاع والبُعد عنهما صعب عليّ جدّاً. آمل أن أعود ويلتئم شملنا. أفكّر بهما دائماً وأتّصل بهما كلّ يوم تقريباً، لكي أطمئنّ عليهما لأنّ الوضع في شمال القطاع صعب جدّاً. انهما يعيشان في خوف دائم من القصف المتواصل ليلاً ونهاراً، ويعانيان من نقص في الغذاء ولا يحصلان بتاتاً على لحوم أو خضار.

لقد أثّر الاعتقال عليّ وعلى حياتي. كنت على وشك إنهاء دراسة الطبّ والحصول على الشهادة. اعتقلني الجيش دون أيّ سبب، ثمّ انهكني الجنود ضرباً وإهانة. حتى أنهم لم يقدّموا ضدّي لائحة اتّهام. ينتابك شعور بأنّك بلا قيمة، مجرّد من الحقوق الأساسيّة التي يُفترض أنّها مكفولة لكلّ إنسان. مصيرُنا مجهول. لا أعرف إن كنت سأتمكّن من مواصلة دراستي في ظروف الحرب التي تشنّها إسرائيل في قطاع غزّة أم لا.

- سجلت الإفادة باحثة بتسيلم الميدانيّة ألفت الكُرد في 23.6.24