مدونة قانونية لـ : إحسان عادل. وهو مؤسس ورئيس منظمة القانون من أجل فلسطين، ومحام دولي
على عكس ما قد يبدو بدهية لوهلة، والمتمثل في أن الهروب من السجن يمثل جريمة، على أساس أن الشخص إنما يودع في السجن لارتكابه -أو الاعتقاد بارتكابه- جرماً ما، إلا أن هذه البدهية ليست صحيحة تماماً كما أنها ليست مطلقة، فالهروب من السجن قد يكون أمراً مسموحاً في بعض الدول، بمعنى أنه لا يمثل جريمة، فيما إنه يمثل جريمة في دول أخرى وتبيح للجنود إطلاق النار حتى لو كان الهارب أعزلاً. وفي نفس الوقت، وإذا كان الهروب من السجن يعتبر مسألة جدلية تختلف حولها شرائع الدول، فإن ذلك الاختلاف ينحصر فقط على حالة الهروب في أوقات السلم، أما في أوقات الحرب، وإذا كان الحديث عن أسرى حرب، فالأمر ليس كذلك أبدا!
لقد مثل الهروب من الأسر مسألة تم مناقشتها على الصعيد القانوني في وقت مبكر جداً، وقد تعاملت معها الدول في سياقات القانون الدولي الإنساني، الذي يحكم حالة الحرب والاحتلال، ووصلت فيها لتوافقات قد تبدو مفاجئة.
ففي إعلان بروكسل لعام 1874 (مشروع الإعلان الدولي بشأن قوانين وأعراف الحرب)، نصت المادة 28 على أن أسير الحرب الذي يحاول الهروب، يمكن استخدام الأسلحة ضده، وإذا أعيد القبض عليه أثناء محاولته الهرب، فسيخضع فقط لعقوبة تأديبية أو لمراقبة أكثر صرامة، أما إذا نجح في الهروب، ثم تم أسره في وقت لاحق، فلا يتعرض للعقاب.
في عام 1907، تم اعتماد الاتفاقية الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية، المعروفة باسم اتفاقية لاهاي. نالت هذه الاتفاقية إجماعاً عالميا، وتعد اليوم جزءا من القانون الدولي العرفي. في المادة 8 من الاتفاقية، تم إسقاط البند الوارد في إعلان بروكسل والذي يتحدث عن إمكانية استخدام السلاح ضد أسير الحرب الذي يحاول الهرب. لكن الاتفاقية أكدت على أن أسير الحرب الذين يحاول الهروب ثم يقبض عليه قبل أن ينجح في ذلك، ينال عقوبات تأديبية، أما في حالة نجاحه في الهرب، ثم جرى أسره من جديد، فلا يتعرض لأية عقوبة بسبب الهروب السابق.
أعادت اتفاقية جنيف لعام 1929، في المادة 50، التأكيد على ذات النص الذي ورد في اتفاقية لاهاي. وأخيرا، عالجت المواد 91 – 94 من اتفاقية جنيف الثالثة (1949)، والتي، بالمناسبة، تمت المصادقة عليها من قبل أكثر من 190 دولة، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة، مسألة هروب أسرى الحرب.
وفي جوهرها، تنص هذه المواد على أنه لا يجوز معاقبة الهروب الناجح، مع تحديد ما الذي يعد “حالة هروب ناجحة” (المادة 91)؛ أما محاولات الهروب الفاشلة فيمكن أن تؤدي إلى عقوبة تأديبية فقط وربما مراقبة خاصة كإجراء وقائي (المادة 92)؛ فيما إن الأفعال ذات الصلة والمرتكبة من قبل سجناء آخرين بقصد تسهيل الهروب والتي لا تنطوي على أي عنف ضد الحياة تستحق عقوبة تأديبية فقط (المادة 93).
في المقابل من ذلك، وإذا كان الأشخاص الذين تم اعتقالهم من قبل قوة الاحتلال ليسوا أسرى حرب، بل مدنيين، تم اعتقالهم مثلا لمخالفتهم لأوامر عسكرية معينة أو لانتهاك القانون الجنائي في البلد الذي يعيشون فيه تحت الاحتلال، فهؤلاء، بموجب المادة 120 من اتفاقية جنيف الرابعة، لا يخضعون، في حال أعيد القبض عليهم بعد هروبهم أو أثناء محاولتهم الهروب، إلا لعقوبة تأديبية، ويمكن فرض مراقبة خاصة عليهم “شرط ألا يكون لهذه المراقبة تأثير ضار على حالتهم الصحية، وأن تجرى في أحد المعتقلات، وألا يترتب عليها إلغاء أي ضمانات تمنحها لهم هذه الاتفاقية”. كما لا يتم تعريض المعتقلين الذين ساعدوا في الهروب أو محاولة الهروب “إلا لعقوبة تأديبية”.
وهكذا، فالنتيجة القانونية للهروب الناجح لأسير الحرب هي أنه إذا تمت إعادة القبض عليه، أنه لا يخضع لعقوبات جنائية أو تأديبية بسبب هذا الهروب. أما إذا فشلت محاولة الهروب، أو كان الشخص مدنياً وليس أسير حرب، فحينها غاية ما يصار إليه هو أن يتم فرض عقوبات تأديبية عليه، وليس اعتبار أن ما فعله يمثل جريمة تستوجب عقابا جنائياً.
وقد انعكست هذه القواعد في العديد من الأدلة العسكرية للدول، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، فإن أسرى الحرب الذين يساعدون أو يحرضون على الهروب أو محاولة الهروب يخضعون فقط لعقوبة تأديبية.
في الواقع، تثير هذه المسألة سؤالاً عن السبب الذي دفع الدول إلى تبني هذه السياسة التي تبدو مخففة فيما يتعلق بهروب الأسرى والمعتقلين في حالة الحرب؟
في تعليقها عام (1960)، وتعليقها المحدث (2020) على اتفاقية جنيف الثالثة، تشير اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن هرب أسير الحرب يثير معضلة بين فكرتين متناقضتين: ففيما يُنظر لمحاولات الهرب على أنها مدفوعة بالوطنية والشرف، وليس كجريمة، والتي بموجبها يعني أن لأسرى الحرب حق، وواجب أخلاقي، بل وفي بعض الأحيان واجب قانوني بالهرب بموجب قانون الدولة التي ينضم الأسير تحت لوائها. في المقابل، يُنظر لمحاولة الهرب بأنها خرق للانضباط يعاقب عليه القانون، وتلتزم الدولة المسؤولة عن الاعتقال بشدة لمنع حدوثه. هذه الأفكار المتناقضة وُصفت بأنها “مفارقة الهروب” ‘paradox of escape’.
ينبع هذا الامتياز الممنوح لأسرى الحرب، بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، من حقيقة أن أسرى الحرب لا يرتكبون أية مخالفة للقانون الدولي بمحاولة الهرب، وبالتالي فإن محاولتهم الهرب من آسريهم يمكن تصورها بشكل مشروع، حيث أن هذا “الحق” مستمد بشكل غير مباشر من فكرة “امتياز القتال” الممنوحة أصلا لأسرى الحرب، والتي لا تجيز أساساً معاقبتهم على ما قاموا به من أفعال طالما كانت متسقة مع قواعد القانون الدولي الإنساني، على عكس المعتقلين المدنيين، الذين يمكن تعريضهم لعقوبات تأديبية إذا أعيد القبض عليهم بعد هروب ناجح.
ومن اللافت هنا، أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر ذكرت أن مسألة الهروب تمثل أحياناً “واجباً قانونيا” على أسير الحرب، فماذا يعني ذلك؟
في الواقع، هناك عدة دول وضعت بالفعل التزامات على جنودها بالعمل على محاولة الهروب من الأسر في حال وقعوا فيه. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما ورد في المادة الثالثة من “مدونة قواعد السلوك لأفراد القوات المسلحة الأمريكية“، والتي تنص على أنه إذا تم أسر جندي أمريكي “فسوف يستمر في المقاومة بكل الوسائل المتاحة، وسيبذل قصارى جهده للهروب ومساعدة الآخرين على الهروب. لن يقبل إطلاق سراح مشروط، ولا خدمات خاصة من العدو”، وتؤكد المدونة بأنه “يجب أن يكون أسير الحرب… مستعدًا للهروب كلما سنحت الفرصة”.
وتستدرك المدونة بأن “واجب عضو القوات المسلحة في الاستمرار في المقاومة لا يعني أن السجين يجب أن ينخرط في مضايقات غير معقولة كشكل من أشكال المقاومة. كثيراً ما يكون انتقام الخاطفين على حساب ذلك السجين وغيره من السجناء هو النتيجة الأساسية لمثل هذه المضايقات”.
كما تشير المدونة إلى فكرة “الإفراج المشروط”، والذي يتضمن تقديم أسير الحرب وعدا لآسريه بالوفاء بشروط معينة، مثل الموافقة على عدم الهروب أو القتال مرة أخرى بمجرد الإفراج عنه، وتؤكد المدونة: ما لم يكن هناك توجيه محدد من أسير حرب أمريكي ذو رتبة كبيرة متواجد في نفس مكان الأسر، لن يوقّع أسير حرب أمريكي أو يقبل إطلاقًا الإفراج المشروط.
إن جدلية شرعية الهروب من السجن ليست فكرة تطرح في اتفاقيات جنيف فقط وفي حالات الحروب، بل في العديد من المواضع الأخرى وفي حالات السلم. لقد تم تناول هذه الفكرة في أوروبا مبكراً وشكّلت جزءا من التطور الذي عاشته أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر، مع غروب مفاهيم القانون في العصور الوسطى وصعود مدرسة الحرية والحقوق الطبيعية للإنسان، وما يعرف باسم “مدرسة سالامانكا“.
فرانسيسكو سواريز، الفيلسوف الذي عاش في غرناطة بين القرنين السادس والسابع عشر، اعتبر أن للسجين الحق الكامل في الهروب إذا كانت العقوبة التي صدرت بحقه قاسية جدًا وكان السجن الذي سُجن فيه غير صحي. هذا حتى في حال كانت العقوبة عادلة.
وتقوم هذه الفكرة على قاعدة أنه، في الأصل، يجب على المذنب أن يقضي العقوبة، ولكن إذا لم يتم استيفاء الحد الأدنى من الشروط لحياة كريمة في السجن، حينها، حتى لو كانت العقوبة عادلة، يحق له تجنبها.
وكان فيكتور هوغو، الشاعر والروائي الفرنسي المعروف وصاحب رواية “البؤساء”، والذي توفي عام 1885، قد أشار في تلك الرواية التي أخذت صيتاً هائلاً إلى مأساة البقاء في السجن، وإشكالية المعاقبة على الهرب.
يحدثنا “هوغو” في “البؤساء” (ص 152) عن جان فالجان، بطل الرواية، الذي كان يتضور جوعا، ما دفعه إلى محاولة سرقة رغيف خبز، ليقبض عليه ويحكم بالسجن خمس سنوات. في نهاية العام الرابع، هرب، وأثناء هربه، ليومين، كان يخاف من كل شيء، ومن كل صوت: من السقف الذي يتصاعد منه الدخان، من الرجل الذي يعبر الطريق، من الكلب الذي ينبح، من الساعة التي تدق، من النهار لأنك تبصر فيه، ومن الليل لأنك لا تبصر فيه، من الطريق، من الأشجار، ومن النوم.
وفي ليلة اليوم الثاني من هربه، تم أسره، وعوقب بمدة سجن إضافية لثلاث سنوات. وفي السنة السادسة، هرب مجدداً. وحين وجده الحراس مختبئا خلف قاعدة سفينة قيد الإنشاء؛ قاومهم، فعوقب ب5 سنوات إضافية: عن حريمتي الهرب، ومقاومة السلطات. في العام العاشر من سجنه، أعادها مجددا، فنال ثلاث سنوات أخرى، ثم مجددا في السنة الثالثة عشرة، هرب لأربع ساعات فقط، فعوقب بثلاث سنوات إضافية لهذه الساعات الأربع. دخل السجن عام 1796 وأطلق سراحه عام 1815: تسعة عشر عاماً لأنه كسر زجاج نافذة وسرق رغيف خبز.
وهكذا، وجدت هذه الفلسفة صداها في القوانين، وتعاملها مع مسألة الهرب، حيث اعتبرت العديد من الدول بأن الطبيعة البشرية تقتضي الرغبة في الهروب من السجن، فالحرية هي حق طبيعي، وبالتالي لا يمكن تصور المعاقبة على ذلك. وفي الواقع، مثّل هذا الأمر جزءا من فلسفة متكاملة، تقوم على أن للمتهم الحق بالنضال قدر استطاعته من أجل حريته. فكما لا تعتبر القوانين كذب الشخص بشأن جريمته جريمة منفصلة بحد ذاتها (بمعنى: أن إنكار الشخص الذي قام بالسرقة أنه قام بها، لا يعتبر جريمة إضافية يعاقب عليها إلى جانب السرقة)، فكذلك الأمر بالنسبة للهروب، إنه ينطلق، بحسب ما يشرح المحامي والمشرع الفدرالي المكسيكي “خوسيه روميرو”، من ذات المنطلقات.
وبينما لا تزال العديد من الدول تعتبر الهروب من السجن جريمة، مثل الولايات المتحدة وكندا والصين وروسيا، وعربياً: كالأردن (المادة 228 من قانون العقوبات) والمغرب (الفصل 309 من قانون العقوبات) ومصر (المادة 138 من قانون العقوبات)، حيث يتم المعاقبة على الهرب باعتباره “جريمة ضد إقامة العدل – Offence against the Administration of Justice”، فإن دولاً عديدة أخرى، ولا سيما في أوروبا، كألمانيا وبلجيكا وهولندا والسويد والنمسا، إلى جانب المكسيك، لا تقوم بتوجيه أي تهمة للهاربين في حال تم إلقاء القبض عليهم مجددا.
غير أن هذه الدول، وبينما لا تعاقب على الهرب بحد ذاته، إلا أنها، كما في ألمانيا مثلا، تشترط أن لا يخالف الهارب أية قوانين أثناء هربه، وهو ما يبدو، في الواقع، مستحيلاً. فمثلا، إذا قام السجين بإتلاف القضبان، فهذا يمثل جريمة إضرار بالممتلكات، وإذا هرب بملابس السجن، فهذه سرقة، ناهيك، بالطبع، عن إذا ما ضرب شخصا أو هدده. أما في المكسيك، وبينما لا يعاقب القانون على الهروب من السجن، يجيز لحراس السجن إطلاق النار على السجناء الفارين.
وفي بعض الولايات الأمريكية، ك “فرجينيا”، تعتمد عقوبة الهروب على ما إذا كان الجاني قد هرب باستخدام القوة أو العنف أو إشعال النار في السجن، وخطورة الجريمة التي كان قد سُجن أساساً بسببها.
هذا الاختلاف القانوني يُطرح بشكل نقدي أكبر، في حالة إذا كان الشخص الذي هرب من السجن غير مجرم أصلا. يرى قانونيون أنه حتى في هذه الحالة، يعد الشخص قد ارتكب جريمة، حيث أن صاحب الاختصاص في تحديد ما إذا الشخص مذنبا أو غير مذنب هو المحكمة، وليس الشخص نفسه. فلكي تعمل العدالة بطريقة منظمة، يجب ألا يُمنح السجين امتياز تحديد ما إذا كان يجب حبسه أم لا. ومع ذلك، يرى آخرون بأنه إذا كان الاعتقال غير قانوني، فلا يمكن أن يكون الشخص مذنبًا بالفرار.
لم تهدف هذه المدونة إلى استقراء مستفيض لقانونية الهرب من السجن، سواء في حالات السلم أو الحرب، ولكنها هدفت إلى إلقاء الضوء على هذه المسألة وأنها، ليس كما يُتصور لوهلة، محسومة تماماً، وإنما تختلف باختلاف الوقت، سلماً وحرباً، كما تختلف معاملة الدول بهذا الخصوص تبعاً لفلسفتها القانونية. كما هدفت إلى أن تؤكد على أن لمقاتلي الحرية، دوماً وفي كل ظرف، استثناء بهذا الخصوص.
يبقى أن أشير إلى أن هذه المدونة كُتبت في ظلال الحدث الكبير بهروب ستة أسرى فلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي يوم 6 أيلول/سبتمبر 2021، عبر نفق. لا تناقش هذه المدونة إذا ما كان ينطبق وصف أسير الحرب على هؤلاء الأسرى، فذلك يحتاج إلى فحص فردي لكل حالة على حدة مما لا يسعف فيه هذا المقال -كما أنه ليس مقصده-، لكن كاتب هذه المدونة يود أن يشير، إلى أنه من بين ما يزيد على 850 ألف أسير فلسطيني اعتقلتهم إسرائيل منذ العام 1967، لم تقم بالتعامل مع أي منهم باعتباره أسير حرب، وهذا، وفق بحث معمق أجراه الباحث بشكل مشترك وتم قبوله للنشر – وسوف يصدر هذا الشهر عن المجلة الآسوية للقانون الدولي/ جامعة كامبردج- يمثل مخالفة جوهرية للقانون الدولي الإنساني. إن التعسف في القهر والتنكيل، والذي يصل حد منع الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية من الاتصال العائلي مع عائلاتهم، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى شوق مستمر ومفهوم للحرية، وسعيٍ محموم لنيلها بكافة السبل المتاحة.