تتصاعد حرب الإبادة الجماعية وتشتد شراستها بلا هوادة على الأشخاص المدنيين المحميين، ففي كل مرة تسمح الظروف فيها بمقابلة الضحايا؛ ينكشف حجم الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة، والآخذة في الاتساع طالما أن الفعل الدولي لم يرقَ لمستوى وقف الوحشية الإسرائيلية، والتي كان من بينها استخدام المدنيين كدروع بشرية وتعريض حياتهم لخطر الموت.
وتواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي تحديها لمنظومة الحماية التي وضعها القانون الدولي الإنساني، لحماية الأشخاص المدنيين غير المشاركين في القتال، وفي تجاهلها للنداءات كافة التي أطلقتها الهيئات الدولية القائمة على إنفاذ أحكام القانون الدولي، في مشهد يظهر مستوى الخرق السافر لاتفاقية جنيف الرابعة، والتي قيدت سلوك المتحاربين وشددت على وجوب حماية أرواح الأشخاص المحميين ولا سيما المعتقلين منهم، وشرَّعت قواعد خاصة لمعاملة المعتقلين، هذا إلى جانب المعايير الدولية الأخرى الناظمة لحقوق الأشخاص المحرومين من حريتهم.
وفي جريمة جديدة تُضاف لسجل الجرائم الإسرائيلية خلال حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023؛ رصد مركز الميزان لحقوق الإنسان، استخدام قوات الاحتلال لمعتقلين فلسطينيين كدروع بشرية، بعد القبض عليهم، حيث أفاد المعتقل م. ع.، (31 عاماً)، من سكان غزة، لمحامي المركز خلال زيارته لسجن المسكوبية بتاريخ 18 أغسطس/آب 2024، بالآتي: " بتاريخ 16/5/2024م، اعتقلتني قوات الاحتلال من منزلي في جباليا بمحافظة شمال غزة، وأجبروني على خلع ملابسي وعصبوا عيني وقيدوا يدي وضربوني، ثم رفعوا العصبة عني وألبسوني الزي العسكري الإسرائيلي بما في ذلك الدرع والخوذة، وأعطوني كاميرا، وأمروني بالدخول لأحد الأنفاق في جباليا، وعلى أن يمشوا خلفي، رفضت خوفاً على حياتي، فأجبروني على الدخول لأحد المنازل لتفتيشه...".
وأفاد المعتقل المفرج عنه ح. أ. لباحث المركز: "اقتحم جيش الاحتلال حي الأمل بخان يونس... سمعنا صوت إطلاق نار عنيف من الرشاشات، فجلسنا جميعا داخل غرفة واحدة في المنزل وكنا عبارة عن اثنان وخمسون شخصاً ما بين أفراد العائلة وعائلات نازحة....اقتحم جنود الاحتلال منزلنا المكون من ثلاث طبقات واصطحبوا معهم ابني الأكبر في المقدمة لفتح كافة أبواب المنزل وتفتيش كافة الغرف والأماكن في المنزل، وفجروا بعض الأبواب والجدران داخل المنزل وسط خوف وبكاء وهلع الأطفال والنساء".
يؤكد المركز على أن استخدام المعتقلين والمدنيين عموماً كدروع بشرية هي جريمة ترتكبها قوات الاحتلال بشكل منظم في كل اجتياح بري لقطاع غزة. وهذا ما وثقه مركز الميزان عشرات المرات، وكان أبرزها حالة مجدي عبد ربه في عدوان 2009، التي سلط تقرير لجنة غولدستون الضوء عليها. كما أن تحقيقات منشورة في صحيفة هآرتس الإسرائيلية تؤكد ارتكاب هذه الجريمة على نحو منهجي وتحت شعار حياتنا (الجنود) أهم من حياتهم (الفلسطينيين)، بل إنهم يستعيضون عن الكلاب المدربة بالفلسطينيين ليكونوا دروعاً.
إن استخدام المدنيين كدروع بشرية، يُشكل انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي الإنساني، إذ جاء في المادة (28) من اتفاقية جنيف الرابعة على أنه: "لا يجوز استغلال أي شخص محمي..."، وفي المادة (49) من الاتفاقية ذاتها: "...لا يجوز لدولة الاحتلال أن تحجز الأشخاص المحميين في منطقة معرضة بشكل خاص لأخطار الحرب..."، ونصت المادة (51/7) من البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقية جنيف على أنه: "...لا يجوز أن يوجه أطراف النزاع تحركات السكان المدنيين أو الأشخاص المدنيين بقصد محاولة درء الهجمات عن الأهداف العسكرية أو تغطية العمليات العسكرية".
كما يُعتبر اللجوء لاستخدام الأشخاص كدروع بشرية، جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، إذ نصت المادة (8/2/ب/23) منه على عدم جواز إتيان الفعل الآتي: "استغلال وجود شخص مدني أو أشخاص آخرين متمتعين بحماية لإضفاء الحصانة من العمليات العسكرية على نقاط أو مناطق أو وحدات عسكرية معينة".
وبحسب أعمال الرصد والتوثيق التي يباشرها المركز، فإن المعتقلين الفلسطينيين يتعرضون إلى معاناة عظيمة جراء الأهوال الواسعة من الانتهاكات القاسية والمميتة، والتي تبدأ منذ لحظة إلقاء القبض عليهم، حيث تقوم قوات الاحتلال بإجبارهم على خلع ملابسهم، وتعصيب أعينهم وتقييد أيديهم، ثم تُباشر ضربهم على أنحاء متفرقة من أجسادهم، وتستخدم بعضهم كدروع بشرية، ثم تبدأ رحلة معاناتهم مع التعذيب والمعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة، والتي يتخللها شبح المعتقلين -تعليق من الأيدي أو الأرجل أو كلاهما لساعات طويلة- وإطلاق الكلاب عليهم، وفي بعض الحالات اغتصابهم، وضربهم بالأدوات الحادة، وتهديدهم بالقتل وقصف منازلهم وقتل عوائلهم، وإجبارهم على الجلوس تحت أشعة الشمس الحارة لساعات طويلة، وسكب الماء من حولهم دون تمكينهم من الشرب، ووضعهم في ظروف معيشية قاسية تسببت في إصابتهم الأمراض الجلدية، وعدم توفير الفراش والطعام الكافيين وأدوات النظافة الشخصية، وسياسة الإهمال الطبي، وحرمانهم من زيارة الأهل أو التواصل معهم، ومنعهم من الالتقاء بمحامٍ، إضافة إلى احتجازهم وفقاً لقانون المقاتل غير الشرعي الذي يحرم المعتقلون أبسط ضمانات المحاكمة العادلة، ولا سيما عدم إبلاغهم بالتهم المنسوبة إليهم، وحرمانهم حق الدفاع.
هذا وتُشير متابعات مركز الميزان إلى أن قوات الاحتلال تُواصل اعتقال الفلسطينيين من سكان قطاع غزة والضفة الغربية، وأن عدد من اعتقلتهم من القطاع بعد السابع من أكتوبر بلغ الآلاف، وهي تُفرج عن بعضهم بين الفترة والأخرى سواء عبر معبر كرم أبو سالم أو المناطق الحدودية الأخرى، وأن المتبقين حالياً حوالي (2,650) معتقل، من بينهم (12 طفلاً)، و(2) سيدتين. ومن بين العدد الكلي للمعتقلين يوجد حوالي (300) معتقل يخضعون للمحاكمات، بينما يُحتجز (2,350) منهم كمقاتلين غير شرعيين.
مركز الميزان لحقوق الإنسان يستنكر بشدة استخدام المعتقلين الفلسطينيين كدروع بشرية، ويحمل دولة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن حياتهم، ويكرر دعواته للمجتمع الدولي بضرورة تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويدعو إلى وقف حرب الإبادة الجماعية المستمرة، وإلى فتح تحقيق من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم الإسرائيلية، وصولاً إلى حماية المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وحماية المدنيين من سكان قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة عموماً، واحترام أحكام القانون الدولي.