في أن تهرب بالهرب: رأسك هو السجن

  

العزيز عاطف - فنان تشكيلي

لا أتذكر أني كنت يومًا على الأرض، دائما حاولت الطيران في الوسط لا أحلّق فأختنق في آخر السماء ولا أقف على البر فيأكلني ملل الحياة و"هبلها".

في آخر سنة 2021 استيقظت في السجن، هنالك تحاول الزنزانة أن تضرب لك الجوّ والفضاء والمفتوح؛ فتسقفه، تشيّكه، توصده. وتحاول أن تضبط بقصدية صهيونية بهلوانك، أن تخلعك في الأرض وتعبث بكلك: خارجك، وجوّانيك: تقيّد حركة الجسد الحر داخل المحدود القهري والمحصور المغلق والمسيّج المجدرن، وتمنعك عما يمكنه مؤانسة هذا التكبيل، أي السجن يسرق الناس بسرقتك من عندهم، يزرع الشوق والفقدان والتفكير. ويعزلك عن الأدوات التي غالبًا ما يحتاجها العادي لصناعة المعنى أو الإفلات من ضجر الوجود باللهو المُنتِج فيه. فلا المعول في يدك ولا شعر حبيبتك المتعرّج ولا القلم. لا أفهم ما يبقي كائنًا من يكون على وجهها لهذه الأرض اللعينة؛ إذ فقد المعول على الطبيعة، ونعومة الطبيعة، والقلم فوق الطبيعة وفيها! إذًا هنالك من يحاول أن يمنعك من الطيران، أن يعقلك بحبل يربطه بحديدة. 

في أحد جولات أولومبياد التحقيق بحث المحقق عن قلم وجد غطاءه على طاولته كأزعر يبحث لولّاعته عن سيجارة. لم يشك -كما اسنتجت- أن القلم في عمق سروالي. ولن أوضّح كيف للسروال عمق. وهرّبته للزنزانة، أحدثت خرقًا في تصميم آلة التوقيف الزمني النافية، خرق كبير بعنوان: قلم في الزنزانة والله العظيم. 

كتبت على ورق مناديل الحمام أغنيتين بلحنين مختلفين لأتسلى بالتنغيم والترديد وأزعج آذانهم بقباحة تصفيري في جواب المقام الصوتي وأجامل نفسي أن صوتي وطبقته رخيمة كقماش المخمل، وخبّأت المناديل.

ثم إذا قذفت من الزنزانة إلى أقسام السجن، من بطن الحوت إلى دنس ودمس ودلس الهواء والناس؛ فرحت.

ولكن يجب أن أُسرّ إليك بواحدة، حبيبتك ليست هنا، وأن تحصل على معول في السجن هذا يعني أنك نَفَّقْت الأرض ونَفَقت منها، فلا معاول في سجن يا ابن اللخماء. قلت إني سأسرّ لك، والسر: أن هنالك قلمًا. اصنع من كعب قدمك ورقًا واكتب. المهم ارسم. اكتب، اصنع شيئا هنالك قلم.

وسأخبرك عن أمر بالأساس كان يبغضه الأسرى، ولطالما اشتكوا منها حتى أصبح تركها عُرفًا، رغم أنهم اليوم وبعد السابع من العظيم أكتوبر أصبحت رؤيتها أمنية، وكنت أقول دائما للأسير الذي اُنتخب إداريًا للقسم: إذا أتت قهوة الإدارة فلا تتلفها أنا بحاجتها. أغليها فوق "البلاطة" وهي أداة الطبخ في السجن استخدم قماشة بالية وأشكّل بها القهوة المغلية على الورق الذي كان يحضره لي الأسرى الذين انتخبوا للعمل في مطبخ السجن الكبير الذي يجهّزون به الأكل تجهيزًا أوليًا ليصبح طهوه عبر البلاطة أكثر قابلية. وهذا الورق هو ما تغلّف به أكياس السكّر التي تأتي بالجملة كصناديق كبيرة للمطبخ، وهكذا أصبحت لوحتي مؤسسة بحاجة لأفرّغ بها كل هذا القبح الهائل الذي وضعوني فيه. فأطلب من مسؤول الأسرى قلمًا من الأقلام التي تعطيه إياه الإدارة.. وأسكب نفسي كلها هناك مع الحبر أعبّئني كلي، لا أدع مسامة على الورقة إلا ويمرّ فوقها قلبي السكوب المهطال المحمّل بكل هذا التصالف الممارس ضد شوقي لأهلي لأصدقائي ولحبيبتي التي لم تكن موجودة، ثلاث عشرة ساعة يوميًا كانت كفيلة جدا بأن تظهر حفرة في أصبعي الأوسط حيث يرتكز القلم المشدود بتوتر عال بشوق عاصف، كان لهذا القلم وظيفة واحدة: ألّا تتواصل الأسلاك في داخلي. ألا أفكر ألا أتذكر أين أنا ما أقبح السجن! لولا فتحة القلم.. بل هو قبيح، حتى لو كان في مصنع أقلام ملونة.

استنتجت سريعًا أن علي أن أخفي عن الأسرى قدرتي الفنية على رسم "البورتريه" فما أن رسمت طفلة صديقي حتى تجمهر حولي كل أسرى الغرفة يمدون صور أحبائهم. فقلت لهم أرسمها كلها لكن بشرط القسم على ألا يعلم أي أسير خارج الغرفة أني أرسم. فلتكتفوا بمعرفة أني أجيد بعض الخطوط العربية، فكان بالنسبة لي وسأقولها لأول مرة هنا، أني فعلت ذلك لأنه لن يأتي لي أسير لو كتبت له بخط معّقد وجميل اسم خطيبته ويقول لي هذه الألف قصيرة بعض الشيء أو أنها غير مكتوبة بحرفية خطاط. لكن سيأتي لي أحدهم ويقول لي لم أشعر أن اللوحة التي رسمتها لصورة ابنتي تشبهها! هذه الجملة ستمزّق علاقتي بالقلم فأرتطم بواقعي سأصرخ بصوت عال، ها أنا في السجن. تخيّل "ياه" أن أكتشف أني في السجن، سألني أحد الأسرى مرة: حينما تخرج إلى المحكمة تمكث في غرف الانتظار ثلثي يومك فماذا تفعل؟ كنت أعزف البيتبوكس وأغني ما أحفظه مما ألّفته صغيرا من أغاني الراب. يجب ألا أصحو، كانت عملية إلهاء مقصودة بطاقة أكبر من عقلي الظاهر.  كان القصد ألا أنتبه ألا أتذكّر ألا يهمس لي أحدهم: أنت في السجن يا أبله. وكلما رأيت أسيرًا لا يقرأ لا يكتب لا يرسم؛ توقّف عقلي عن استيعاب ما يجول في خاطره كيف يحمل نفسه؟ كيف يحتمل صحوه؟ من أين يأتي بالطاقة؟ فيذكر أهله وشوقه لهم. لم أقدّم في الثمانية شهور التي مكثتها هناك تصريح زيارة لكي أرى أهلي. رؤيتهم سأدفع ثمنها عقلي كله بعد أن تنتهي الأربعون دقيقة المسموحة في كل شهر. ثم أهرب إلى مخدّري، إلى القلم، الذي يمشي على ورق السكّر المطلي ببن القهوة المكروهة المغلية، أسود على بني، يعيدني إلى زمن قديم وأحاول عبر هذه الدائرة اللونية المبتورة محو درجة الرمادي في جدران الزنازين درجة الأزرق اللئيم في بوابات السجن ولون الفرشة في الزنزانة الانفرادية، ولون أغطية النوم البني الغليظ ثقيل الظل الأهوج. ثم من قصص الأسرى ومن الجمل المثقلة بالحمولات الوطنية في أغاني راديو وطن ومن بعض الاقتباسات في الكتب كنت أعبّئ حروفياتي. وكلما أصبحن عشر لوحات هرّبتهن من السجن، يصلن أصدقائي؛ يصلني الخبر! وصولهن هو الخبر الذي أسعى بكل الطرق لمعرفته أسأل عنهن كأنهن بعض لحمي، لم أكن أفكّر بمعرض، أنا كنت أرسم من أجل أن أهرب مما هُندِس السجن من أجله، قتل أجزاء منا أو قتلنا بالكامل. خرجت من السجن عام 2022، أكتب هذا بعد عامين في 2024، ولكن السجن اليوم مقبرة حقيقية فلا بلاطة ولا قهوة مكروهة ولا أغطية بنية ولا قلم ولا خبر تسعى لمعرفته أو إعلامه، جدران وحديد وتعذيب منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخه، لا معول ولا حبيبة ولا قلم.