محمّد أبو مرسة (43 عامًا)، أب لخمسة، من سكّان مخيّم جباليا للاجئين

  

بتسيلم-25/1/2024

حتّى الحرب كنتُ أسكن مع زوجتي وأولادنا الخمسة، نسيم (19 عامًا) وأحمد (17 عاما) ومريم (14 عامًا) وأمجد (11 عامًا) ومجد (9 أعوام)، ووالدتي زلفة (89 عامًا)، في منزل في مخيّم جباليا للاجئين. كنّا قد انتهينا للتوّ من بناء منزل جديد وكان من المفترض أن ننتقل إليه في تشرين الأوّل عندما اندلعت الحرب.

بدأت إسرائيل تقصف في كلّ مكان. في البداية بقينا في المنزل وكنا نتابع التطوّرات. لكن بعد بضعة أيّام، عندما أعلن الجيش أنّه يتعيّن علينا الإخلاء والنزوح جنوبًا إلى وادي غزّة، حزمنا القليل جدًّا من الحاجيات وتوجهنا إلى بيت خالتي في بلدة الزوايدة في وسط القطاع.

كان الطريق إلى الجنوب مخيفًا. كانت هناك عمليّات قصف وكان الطريق مليئًا بأناس يسيرون على الأقدام يهرعون مذعورين. في البداية سافرنا بالسيّارة وعندما لم يعد الأمر ممكنًا استأجرنا عربة يجرّها حمار.

وصلنا إلى الزوايدة وبقينا هناك عشرة أيّام. كان ذلك صعبًا جدًّا. شعرنا بأنّنا بمكان ليس مكاننا. فبدلًا من الانتقال إلى منزلنا الجديد اضطررنا إلى النزوح إلى منزل شخص آخر. فقدنا كلّ شيء بما في ذلك الأمان الذاتي والكرامة. كان قد لجأ الكثير من النازحين إلى منزل خالتي وبالكاد وُجد الطعام والماء. لم يكن هناك أيضًا غاز للطهي أو فرشات للنوم عليها، وكان ذلك صعبًا بشكل خاصّ على الأطفال. قرّرنا العودة إلى منزلنا في جباليا على أمل أن تنتهي الحرب سريعًا. لكنّ الحرب استمرّت بالطبع وتدهور الوضع أكثر فقط. تواصلت عمليّات القصف الجوّي والقصف المدفعيّ ولم نكن نستطيع النوم. قصفت الدبّابات بيوتًا بجانبنا. كنّا خائفين في الليل والنهار. لم أستطع حتّى الخروج لإحضار طعام للعائلة. أصرت والدتي وزوجتي والأولاد على الرحيل مرّة أخرى فقرّرنا المغادرة جنوبًا.

خرجنا من المنزل في 19.11.23 قرابة الساعة 8:30. أخذنا بعض الأمتعة والنقود وهاتفين وسافرنا في عربة يجرّها حمار حتّى شارع صلاح الدين. من هناك واصلنا السير على الأقدام إلى ساحة الكويت الواقعة في حيّ الزيتون في القسم الجنوبيّ من مدينة غزّة، ومن هناك واصلنا السير على الأقدام أيضًا إلى الحاجز الذي نصبه الجيش الإسرائيليّ قرب "نتساريم"، جنوب مدينة غزّة. عندما وصلنا إلى الحاجز عبرت زوجتي وأولادي، ثمّ جاء دوري ودور والدتي. ساعدتُها على السير وتقدّمنا. عبرنا بجهاز التفتيش ثمّ ناداني الجنود عبر مكبّر الصوت للتقدّم إليهم. كان هناك بعض الجنود وثلاث دبّابات، وكان حولهم حاجز ترابيّ. اضطررتُ إلى ترك والدتي المسنّة والتوجّه إلى الجنود. عندما وصلتُ إلى مسافة عشرة أمتار عنهم أمروني بالوقوف في مكاني وبعدها أمروني بالجلوس.

أمرنا الجنود بخلع ملابسنا كلّها. خلعنا ملابسنا ثمّ قاموا بتفتيش الملابس وبإلقائها على الأرض مع كلّ ما وجدوه في جيوبها. بعد ذلك أمرونا بأن نستدير أمامهم ونحن عراة ثمّ نرتدي ملابسنا مرّة أخرى

بقيتُ على هذه الحال طيلة أربع أو خمس ساعات. كان الطقس باردًا. كان بجواري 30 أو 40 معتقلًا آخر. بعد ذلك شرع أحد الجنود ينادي كلّ أربعة أشخاص للتقدّم سويّةً، وقاموا بإدخال كلّ مجموعة إلى المنطقة المحاطة بالحاجز الترابيّ. عندما دخلنا أمرنا الجنود بخلع ملابسنا كلّها. خلعنا ملابسنا ثمّ قاموا بتفتيش الملابس وبإلقائها على الأرض مع كلّ ما وجدوه في جيوبها. بعد ذلك أمرونا بأن نستدير أمامهم ونحن عراة ثمّ نرتدي ملابسنا مرّة أخرى. كان الطقس باردًا جدًّا. ارتدينا ملابسنا ثمّ أمرونا بالتقدّم نحو مجموعة كبيرة من الجنود الملثّمين الذين كانت بحوزتهم صناديق فيها أصفاد بلاستيكيّة. قيّدوا أيادينا خلف ظهورنا بالأصفاد، وشدّوها بشكل مؤلم جدًّا ثمّ قاموا بعصب أعيننا.

بعد ذلك أجعلونا نجثو على ركبنا على الأرض المغطاة بالحصى وضربونا وشتمونا وأهانونا: أنت حماس، ابن شرموطة، ابن عاهرة، أختك عاهرة. استمرّ الأمر على هذا الحال عدّة ساعات حتّى حلّ الظلام. عندها أوقفونا بالقوّة ودفعونا وهم يضربوننا ويشتموننا باتّجاه سيّارة جيب عسكريّة وألقونا في الجزء الخلفيّ منها. في داخل سيّارة الجيب ألقوا عليّ شيئًا ثقيلًا، ثمّ داس جنديّ على يديّ المكبَّلتين ما سبّب لي ألمًا شديدًا. صرختُ فضربني وشتمني.

سافرت سيّارة الجيب إلى مكان آخر أنزلونا فيه وأدخلونا إلى بركس. في الداخل نزعوا عنّا الأصفاد وعصابات الأعين وأمرونا بخلع ملابسنا وارتداء "ترينينج" أعطوه لنا. كان الطقس باردًا جدًّا هناك أيضًا. بعد أن ارتدينا ملابسنا وضعوا لنا الأصفاد مرّة أخرى وأخذوا هواتفنا وأخذوا مني أيضًا النقود التي كانت بحوزتي وهي 1,000 دولار و6,100 شيكل.

خلال تلك الفترة كلّها منعونا من التحرّك أو التحدّث مع بعضنا البعض. كنا نأكل وننام ونحن مقيَّدين ومعصوبي الأعين، وهكذا أيضًل كانوا يأخذوننا إلى المرحاض

أصعدوني ثانيةً إلى سيّارة الجيب مع شبان آخرين ونقلونا إلى مبنى كبير أرضيّته خشنة كالأسفلت وسقفه من الصفيح. كان المبنى مفتوحًا من الجوانب وكان الجوّ باردًا جدًّا جدًّا هناك. كان هناك شبان كثيرون وعندما وصلنا عصبوا أعيننا وأمرونا بالركوع على ركبنا. سُجنت هناك لمدّة 35 يومًا وخلال تلك الفترة كلّها منعونا من التحرّك أو التحدّث مع بعضنا البعض. كنا نأكل وننام ونحن مقيَّدين ومعصوبي الأعين، وهكذا أيضًل كانوا يأخذوننا إلى المرحاض. كان الجنود يصرخون علينا ويشتموننا طوال الوقت، وإذا تحرّكنا كانوا يوقفوننا خارج السياج وأيدينا إلى أعلى لعدّة ساعات كعقاب لنا. لم يسمحوا لنا بالنوم إلّا قليلًا جدًّا، من منتصف الليل حتّى الرابعة فجرًا فقط. تلقّينا وجبات قليلة لا تشبع وقليلًا جدًّا من الماء للشرب.

خلال وجودي هناك حققوا معي عدّة مرّات. كانوا في كلّ مرّة يأخذونني بالباص إلى مكان مختلف للتحقيق معي فيه. كانوا يأخذوننا إلى التحقيقات عند منتصف الليل دائمًا ونحن منهكون تمامًا من الركوع على رُكبنا طوال اليوم. كان في الباص كلاب، وكان الجنود يضربوننا ويشتموننا.

عندما كنا نصل إلى المكان الذي تُجرى فيه التحقيقات كان الجنود يوقفونني ووجهي نحو الحائط حافي القدمين على الحصى، ورافعًا يدَيّ إلى أعلى لبضع ساعات، بحيث لم أنم طوال تلك الليالي بتاتًا. بعد ذلك كانوا يدخلونني إلى غرفة ويأمرونني بخلع ملابسي والبقاء بملابسي الداخليّة، ثمّ يدخلونني إلى غرفة التحقيق. كانوا يجلسونني على كرسيّ حديديّ يداي وقدماي مقيدات بالكرسي وعيناي معصوبتان.

كانوا يأخذوننا إلى التحقيقات عند منتصف الليل دائمًا ونحن منهكون تمامًا من الركوع على رُكبنا طوال اليوم

في التحقيق الأوّل دخل محقّق ونزع العصابة عن عينَيّ وأراني منزلي عبر الحاسوب وسألني عن عملي وعن الجيران. سألني عن حماس وعن مكان وجود السنوار. فقلت له إنّني لا أعرف وإنّني أعمل في السلطة. سألني عن الأنفاق وغيرها، فقلتُ له إنّني لا أعرف شيئًا عن ذلك أيضًا. فقال لي إنّني أكذب وإنّني لا أريد أن يُطلق سراحي، وكرّرت أنّني لا أعرف أيّ شيء. نادى على جنديّين فأخرجاني من الغرفة وأخذاني إلى بركس أجلساني فيه على ركبتَيّ.

بعد 3-4 أيّام أخذوني إلى تحقيق آخر، كان مشابهًا جدًّا للتحقيق السابق إلّا أنّهم شغّلوا لنا أيضًا موسيقى صاخبة جدًّا هذه المرّة في أثناء انتظارنا لإدخالنا إلى غرفة التحقيق. في التحقيق قيّدوا يدَيّ وقدمَيّ مرّة أخرى بالكرسي وعصبوا عينيّ، ثمّ حضر ضابط أزال العصابة عن عينيّ وقدّم نفسه على أنّه يوسي. سألني إذا كنتُ أعرف أين أنا موجود، فأجبتُه بأنّني في أيدي الجيش الإسرائيليّ. فقال إنّني في قبضة شعبة الاستخبارات العسكريّة، وسألني عن ابن عمّي واسمه نادي السيّد. فأجبتُه بأنّه طبيب وبأنه ابن عمّي، فقال إنّني أكذب وإنّه عضو في حماس. بعد ذلك قال إنّ شقيقتَيّ أسماء وإيمان تنتميان إلى الجهاد الإسلاميّ. تعاني إيمان من تشوّه في الدماغ منذ الولادة وتعاني تشنّجات وقد عولجت بسبب ذلك في مستشفيات إسرائيليّة. سألني أين تسكن أختاي، ثمّ عرض عليّ أن أتعاون معهم فرفضت. شتمني وهدّدني بأنّه سيوجّه لي صعقة كهربائيّة ثمّ غادر الغرفة ونادى على جنديّ ليعصب عينَيّ مرّة أخرى. بعد ذلك دخل محقّق آخر وسألني عن مقبرة الفالوجة، فشرحتُ له كيف يتمّ حفر القبور هناك وكم عدد بوّابات المقبرة.

بعد أن غادر المحقّق أخذوني إلى غرفة أخرى كان فيها ضابط وضابطة. قال الضابط إنّه سيطرح عليّ أسئلة ويجب عليّ أن أجيب عليها دون أن أكذب. سألني مرّة أخرى عن المقبرة فأجبتُه نفس الإجابات. بعد ذلك أصعدوني إلى الباص وهم يدفعونني ويشتمونني وأعادوني إلى البركس.

بقيتُ في البركس 35 يومًا، ثمّ نقلوني إلى سجن النقب (كتسيعوت) برفقة 12 معتقلًا آخر. كنّا هناك في زنازين صغيرة، خمسة معتقلين في كلّ زنزانة. بقينا طوال اليوم على الأرض أو على الأسرة الحديديّة. لم يكن هناك ماء في الحنفيّة وأعطونا زجاجة مياه واحدة فقط لكلّ شخصين أو ثلاثة. كنا نحصل على وجبتين صغيرتين في اليوم. مكثت في تلك الزنزانة 13 يومًا ثمّ نقلوني إلى الخيام في السجن نفسه. كانت عبارة عن خيام صغيرة أجزاء منها مُمزّقة لا تقي من البرد أو المطر. وهناك أيضًا لم نتلقّ سوى القليل جدًّا من الطعام وكانت معاملة الجنود سيّئة جدًّا. طوال هذه الفترة استحممنا مرّة واحدة فقط لأنّهم لم يزوّدونا بالماء الساخن.

بقينا في الخيام حتّى أطلقوا سراحنا في 12.1.24. كنّا عدّة معتقلين معًا. نقلونا من سجن النقب إلى ثكنة عسكريّة ومن هناك نقلونا إلى "كرم أبو سالم". أنزلونا هناك ولم يُعيدوا ودائعنا لنا. لم يعطونا أيّ شيء تركونا هكذا بالـ "ترينينج" الذي كنّا نرتديه.

أنزلونا هناك ولم يُعيدوا ودائعنا لنا. لم يعطونا أيّ شيء تركونا هكذا بالـ "ترينينج" الذي كنّا نرتديه

عندما عبرنا الحاجز أعطانا موظّفو الأونروا بطانيّات وحقيبة فيها بعض السلع الغذائيّة الأساسيّة وسرنا من هناك إلى رفح على الأقدام. وصلتُ دون أيّ شيء، ودون أن أعرف أيّ شيء عن عائلتي. كنتُ معتقلًا مدة شهرين تقريبًا وخلال ذلك الوقت كلّه لم أعلم عنهم شيئًا. لم أعلم إلى أين يتعين عليّ الذهاب. لم يكن لديّ هاتف ولم يكن هناك اتّصالات أيضًا.

ذهبتُ إلى مسجد الطيّبة لأنّني فهمتُ أنّه يوجد هناك نازحون. بقيتُ هناك تسعة أيّام. كانت تلك أيّامًا صعبة جدًّا بسبب ندرة الطعام والماء.

ذهبتُ من هناك إلى مدرسة الدمام لكنّهم لم يقبلوني بسبب وجود عدد كبير من النازحين هناك، فذهبتُ إلى مدرسة الطائف وهناك استوعبوني في خيمة مع معتقلين مُسرَّحين آخرَين.

بعد أيّام قليلة اتّضح لي أنّ والدتي موجودة في نفس المدرسة، وأنّ زوجتي وبناتي موجودات في مدرسة الدمام التي ذهبتُ إليها سابقًا ، وأنّ أبناءنا في خيمة على الشارع المقابل له. الآن ما زلنا في نفس الوضع موزّعين. بالكاد نلتقي مع بعضنا البعض أو نستطيع التحدّث. اكتظاظ كبير جدًّا في كلّ مكان ولا يوجد ركن للجلوس فيه. ليس لدينا مال ولا شيء.

تعرّضتُ لاعتقال تعسّفيّ ولممارسات تعذيب وإذلال. طوال هذه الفترة لم أتوقّف عن التفكير بعائلتي. لكن عندما خرجتُ من السجن واجهتُ واقعًا صعبًا ومخيفًا للغاية، من عمليّات قصف وموت ومجاعة وأمراض في كلّ مكان حولي. ليس هناك أي أمان أو قدرة على العيش بطريقة كريمة والمستقبل غير واضح.

- سجل الإفادة باحث بتسيلم الميدانيّ، محمّد صبّاح، في 25.1.24