أشرف المحتسب (53 عامًا)، أب لخمسة، من سكان الخليل

  

بتسيلم- 15/4/2024

أسكن مع زوجتي نداء (32 عامًا) وأطفالنا الأربعة: محمّد (12 عامًا) وزيد (10 أعوام) وآدم (8 أعوام) وإيمان (7 أعوام). وليَ ابن خامس، من زوجتي الأولى، متزوج ويسكن في مكان آخر. أحمل درجة البكالوريوس في الفنون، وأنا مدير فرقة أفراح موسيقيّة ومدرّب فرق موسيقيّة. كما كان لديّ في الماضي أستوديو لصنع الفسيفساء. سُجنتُ سابقًا في السجون الإسرائيليّة لمدّة ستّ سنوات بالمجموع. كان اعتقالي الأوّل عام 1989 واعتقلتُ حينئذٍ لمدّة ثلاثة أشهر.

في 8.10.23، نحو الساعة 2:00 فجرًا، استيقظتُ على صوت طَرق شديد على باب المدخل الرئيسيّ. فتحتُ الباب ودخل نحو عشرة جنود ملثّمين. رأيتُ قوّات أخرى كثيرة تحيط بالمنزل. رفع الشخص الذي كان يقودهم قناعه، فتعرّفتُ على هويّته بأنّه ضابط "الشاباك" المدعو "كابتن سالم"، الذي أعرفه من اعتقالات سابقة. كان قد اتّصل بي قبل ذلك بيومين وهدّدني بأنّه سيعتقلني وأنذرني بأن أتجنّب النشاط السياسيّ. كان هناك ضابط "شاباك" آخر عرّف عن نفسه بأنّه "أديب". قال "الكابتن سالم" إنّه يريد أن يتجوّل في المنزل. أيقظتُ زوجتي وأخبرتُها بأنّ الجنود جاءوا لاعتقالي. طلبتُ منها أن تجهّز لي حقيبة ملابس. في الأثناء، استيقظ ابني محمّد فانتابه ذُعر شديد عندما رأى الجنود. عندما سمع أنّهم سيعتقلونني أخذ يصرخ، ثمّ أدخل الجنود زوجتي وأطفالي إلى غرفة الأولاد ووقف أحد الجنود بجانب الباب وصوّب سلاحه نحوهم. وأخذوني أنا إلى غرفة الاستقبال.

 

أشرف المحتسب قبل الحرب وبعد الإفراج عنه. 

 

عصبوا عينيّ وأدخلوني في سيّارة جيب عسكريّة كانت متوقّفة أمام المنزل

بقينا هناك نحو ربع ساعة، ثمّ قيّد الجنود يديّ خلف ظهري بأصفاد بلاستيكيّة واقتادوني إلى الخارج. جرّني أحد الجنود بقوّة وبعنف. عصبوا عينيّ وأدخلوني في سيّارة جيب عسكريّة كانت متوقّفة أمام المنزل. أقلّتني سيّارة الجيب إلى معسكر للجيش في منطقة "جفعات هرسينا" في "كريات أربع"، شرق الخليل. أحضروا إلى هناك أربعة معتقلين آخرين وأجلسونا جميعًا على أرض مرصوفة بالحصى. ضرب الجنود المعتقلين الآخرين. سمعتُهم يصرخون من الألم، واستطعتُ أن أرى القليل من تحت عصبة العينين. كان المعتقلون شبّابًا، في أوائل العشرينات من عمرهم، وكان الجنود يضربونهم بقبضات أيديهم وبأعقاب بنادقهم ويركلونهم ويشتمونهم. لم يلمسني الجنود، ربّما لأنّني قلت مسبقًا إنّني مصاب بالسكّري وإنّني خضعتُ لعمليّة جراحيّة في القلب، كما أعاني أيضًا من مشكلة في الكليتين. لم يتحدّثوا معي حتّى.

جلستُ هناك على الحصى مع المعتقلين الآخرين حتّى المساء، وخلال ذلك الوقت كان الضرب يتوقّف ويُستأنف بالتعاقب. لم يقدّم لنا الجنود أيّ طعام. طلبتُ منهم أن أذهب إلى المرحاض فسمحوا لي، لكن ليس للشبّان، فهم كانوا يتعرّضون للهجوم كلّما تجرّأوا على التحرّك ولو قليلًا. شعرتُ، حسب الأعراض التي أعرفها، بأنّ نسبة السكّر في الدم آخذة في الارتفاع لديّ، وبأنّ نبضات قلبي آخذة في التسارع. طلبتُ من الجنود أن يسمحوا لي بتناول الأدوية التي أحضرتها معي، لكنّهم لم يوافقوا. كنت خائفًا من أن ينتقم الجنود منّا بسبب ما حدث في غلاف غزّة وألّا أعود إلى البيت أبدًا. رفض الجنود إعطاءنا ماء حتّى، وأخافني ذلك كثيرًا بسبب وضعي الصحّيّ. مع اقتراب حلول المساء أصبح الطقس باردًا، وشعرتُ بأنّ أطرافي أخذتْ تهمد وكأنّ دمي تجمّد في عروقي. وفي ساعات المساء نقلونا إلى معتقل "عتصيون" بسيّارة عسكريّة. أنزلونا في ساحة مرصوفة بالحصى الخشن وأرغمونا على الركوع عليه.

مُنعنا من التحرّك لمدّة ساعتين. أوجعتني ركبتاي كثيرًا جدًّا. أحاط الجنود بنا ودفعونا بعنف. شعرت بجفاف في الحلق وبوَهَن عامّ بسبب العطش وعدم السماح لي بتناول الأدوية. كنتُ خائفًا جدًّا. خلال هاتين الساعتين طلبتُ من الجنود أن يعطوني جهاز الاستنشاق الذي كان في حقيبتي، لكنّهم رفضوا، ولم يوافقوا على إعطائي دواء السكّري أيضًا. بعد ساعتين أخذونا للتفتيش ونحن عراة، ومن هناك اقتادونا إلى الزنازين. قبل أن يدخلونا إلى الزنازين نزعوا عنّا عصابة العينين والأصفاد. في الزنزانة تناولتُ أدويتي. عانى الشبّان الذين كانوا معي من تورّم ونزيف في المعصمين من جرّاء الأصفاد. كانت الزنزانة التي أدخلونا إليها متّسخة جدًّا، وكان فيها مرحاض صغير وقذر. كنّا نتلقّى الطعام مرّتين يوميًّا هناك، وكان رديء النوعيّة وقليل الكمّيّة كثيرًا جدًّا. كنّا نأكل فقط لكي نبقى على قيد الحياة. لم يكن هناك ماء ساخن وحجرات الاستحمام التي كانوا يأخذوننا إليها كانت بلا أبواب.

استمرّ الأمر نصف ساعة. لم أرَ شيئًا كهذا في السجون من قبل. كان الضرب الذي تلقّوه أكثر حتّى مما يمكن تخيّله

في اليوم التالي أحضروا مجموعة أخرى من خمسة شبّان من مدينة بيت لحم، في العشرينات من العمر. أدخلوهم إلى الساحة التي أمامنا، وشاهدنا من النافذة كيف كانوا يضربونهم. كان هناك عشرة جنود. شغّلوا موسيقى صاخبة في الساحة وانهالوا ضربًا بوحشيّة على المعتقلين الذين كانوا مقيّدي الأيدي ومعصوبي الأعين. ضربوهم بقبضات أيديهم وبأعقاب بنادقهم وركلوهم. تعرّض أحد الشبّان للضرب المبرّح حتّى سال الدم من وجهه وفمه. كان ذلك الضرب مرعبًا. اعتقدتُ أنّهم سيقتلونهم هناك في الساحة. استمرّ الأمر نصف ساعة. لم أرَ شيئًا كهذا في السجون من قبل. كان الضرب الذي تلقّوه أكثر حتّى مما يمكن تخيّله.

أدخلوا اثنين منهم إلى زنزانتنا. كان أحدهما ينزف بغزارة من رأسه، وكانت ملابسه مغطّاة بالدم فعليًّا. بقي في زنزانتنا يومين. خلال هذين اليومين طلبنا منهم إحضار طبيب، لكنّ الجنود تجاهلونا. أمّا المعتقل الثاني الذي وضعوه في زنزانتنا فلم يكن قادرًا على الحركة من جرّاء الضرب الشديد الذي تعرض له. كانت لديه كدمات في جميع أنحاء جسمه وكان معصماه منتفخين، مع جروح مفتوحة، بسبب الأصفاد البلاستيكيّة.

في اليوم التالي سمعنا انفجارين وهرب الجنود إلى الملاجئ. لم نرَ أيًّا منهم طيلة ساعتين. تسرّب الدخان إلى الزنازين وخفنا أن يُقصف السجن ولا يأتي أحد لإنقاذنا. أنا أفهم العبريّة وسمعت أحد الجنود يقول ذات مرّة عبر مكبّرات الصوت: "استعدّوا للحفلة، وصل أشخاص من حماس". مكثتُ في "عتصيون" خمسة أيّام، شاهدت خلالها كيف يتعرّض معتقلون آخرون للضرب أيضًا. بعد ذلك أخذوني برفقة عشرين معتقلًا آخر للتحقيق لدى "الشاباك"، في مركز تحقيق يقع قرب سجن "عوفر"، غرب رام الله. أبقونا في السيّارة طيلة ساعتين، ثمّ اقتادونا، كلًّا على حدة، إلى التحقيق.

كان في الغرفة التي أخذوني إليها محقّق من "الشاباك". تحدّث معي كما لو أنّني شاركتُ في ما حدث يوم 7 أكتوبر في غلاف غزّة، وألقى عليّ مسؤوليّة ما فعلته حماس هناك. رفضتُ هذه الادّعاءات وقلت إنّ لا علاقة تربطني بما فعلته حماس. بعد نحو نصف ساعة من التحقيق أعادوني إلى السيّارة العسكريّة. وفي الليل، بعد التحقيق مع الجميع، أعادونا إلى "عتصيون"، دون أن يقدموا لنا طعامًا أو شرابًا طوال اليوم. شعرتُ بالدوار بسبب ارتفاع نسبة السكّر في الدم.

في صباح اليوم التالي نقلوني مع عدد من المعتقلين الآخرين إلى سجن "عوفر". أخذونا بسيّارة نقل المعتقلين التي جلسنا فيها على مقاعد حديديّة في زنزانة كبيرة بلا نوافذ. انتظرناها أربع ساعات قبل أن تنطلق. عندما وصلنا اقتادونا في ممرّ داخل السجن كان السجّانون فيه يقفون على جانبينا، وكان أحدهم يُمسِك بحزام رُبط به نحو عشرة كلاب، حاولت مهاجمتنا. خفتُ كثيرًا وكنت على يقين بأنّهم سيفلتون الكلاب علينا. أخذونا بعد ذلك للتفتيش الجسديّ وأجبروني على خلع ملابسي، ثمّ أعطونا، أنا والمعتقلين الآخرين، ملابس السجن. اقتادوني إلى القسم 24 الذي كان يضمّ 220 معتقلًا من جميع الأعمار، في 20 زنزانة اعتقال.

كان بجانبنا قسم خاصّ لأسرى غزّة، وكانت وحدة "كيتر"(قوة الرد الأولي) هي المسؤولة عنه. قبل أن يضعوني في الزنزانة رقم 18 انتظرت عشر دقائق أمام قسم أسرى غزّة، ورأيت عناصر "كيتر" يقتادون نحو عشرة معتقلين، كانوا عراة ومعصوبي الأعين ومقيّدي الأيدي بأصفاد حديديّة، كما كانوا مُنْحني الأجسام ورؤوسهم إلى أسفل، ثمّ أوقعوهم أرضًا وأخذوا يضربونهم بالهراوات ويركلونهم، فملأت صرخاتهم أرجاء الممرّ بين الزنازين. لاحقًا أيضًا، بعدما كنتُ قد أصبحتُ في الزنزانة، سمعتُ مثل هذه الصرخات طوال ساعات النهار، وحتّى في الليل. شعرتُ برعب شديد واعتقدتُ أنّ هذا السجن قد يصبح "غوانتنامو" جديدًا.

ثمّ أدخلوني إلى الزنزانة 18. أردتُ أن أسأل السجّانين عمّا حدث لمعتقلي حماس، لكنّني خشيت أن يهاجموني أنا أيضًا، فالتزمتُ الصمت. كنّا في الزنزانة 11 معتقلًا؛ ستّة كانوا ينامون على أسرّة، وخمسة على الأرض، اضطرّ اثنان منهم أيضًا إلى تقاسم فرشة واحدة. كان لكلّ معتقل بطّانيّة واحدة، ولم تكن هناك وسادات. لم تكن في الزنزانة وسائل اتّصال، مثل تلفزيون أو راديو. لم يكن هناك أيّ شيء باستثناء الأسرّة والفرشات. وكانت النوافذ بلا زجاج، إذ قام السجّانون بإزالته وكنّا نشعر بالبرد. أمّا الطعام، فلم يكن يُقدّم بصورة منتظمة، وكمّيّته لم تكن كافية للجميع ولم يكن مغذّيًا. التدخين كان ممنوعًا، ولم نحصل على قهوة. كان "الكانتينة" مغلقًا. الحمّامات كانت في الساحات الخارجيّة، وخصّصوا لنا وقتًا قصيرًا لاستعمالها.

مكثتُ هناك ثمانية أيّام، وفي 26.10.23 نقلوني مع ثمانين معتقلًا آخر إلى سجن النقب ("كتسيعوت"). عندما أخرجونا إلى ساحة السجن، في طريقنا إلى الحافلة، كان عناصر وحدة "نحشون" يتجوّلون هناك ومعهم 13 كلبًا ضخمًا. كانوا يُتيحون للكلاب مرّة بعد أخرى الاقتراب منّا ومحاولة مهاجمتنا، ثمّ يسحبونها في اللحظة الأخيرة. لم أعش مثل هذا الرعب من قبل أبدًا. كنت مقيّدًا بيديّ ورِجليّ بأصفاد حديديّة، فأمسك بي أحد السجّانين وضغط على رأسي وحناه. فعلوا الأمر نفسه مع المعتقلين الآخرين أيضًا. عندما اقتربت من باب الحافلة قام أربعة من عناصر الوحدة بضربي وركلي في مناطق مختلفة من جسمي، وعندما دخلت إلى الحافلة أمسك أحدهم برأسي من الخلف وخبطه عدّة مرّات بالباب. شتموني وشتموا سائر المعتقلين واستخدموا كلمات مشينة تجرح كرامة أمّهاتنا وأخواتنا. كنتُ في حالة نفسيّة صعبة جدًّا بسبب الضرب والإهانات والشتائم التي تلقّيناها أنا وسائر المعتقلين في الحافلة.

استغرق السفر ثلاث ساعات. عندما وصلنا إلى سجن النقب أنزلَنا عناصر وحدة "نحشون" بنفس الطريقة الوحشيّة، ثمّ حشرونا، خمسين شخصًا، في غرفة انتظار لا تتّسع لعشرين. كانت الوحدة المسؤولة هناك هي "كيتر". لم يكن في الغرفة إنارة ولا ماء. شعرت كأنّني في قبر صغير. بعد نصف ساعة عانيتُ من صعوبة في التنفّس وارتفعت نسبة السكّر في دمي وتسارع نبض قلبي. شعرتُ بأنّني سأموت. جاءت جنديّة وفتحت نافذة صغيرة. ثمّ فتحوا الباب وبدأوا ينادوننا بأسمائنا لكي ينقلونا، واحدًا تلو الآخر، إلى الزنازين. عندما جاء دوري أمرني أحد السجّانين بأن أحني رأسي، ثمّ أمسك أحدهم بيدَيّ ولواهما بقوّة خلف ظهري. اقتادوني مسافة 500 متر تقريبًا، وفي الطريق ضربوني بوحشيّة حتّى سقطتُ على الأرض فأخذوا يركلونني في أجزاء مختلفة من جسمي.

أثناء الهجوم، شدّوا جميع ملابسي ونزعوها عنّي، بما في ذلك لباسي الداخليّ. سمعتُهم يقولون الواحد للآخر: "هذا مريض"، ومع ذلك استمرّوا في ضربي. شعرتُ بأنّني سأفقد الوعي. في النهاية أمروني بارتداء ملابسي. وبينما كنت أرتدي ملابسي بصعوبة، استمرّوا في ركلي. كان خصري يؤلمني كثيرًا ولم أستطع التنفّس إلّا بصعوبة. لم أقوَ على الحركة، ناهيك عن المشي. بقيتُ مطروحًا على الأرض حتّى شدّني وسحبني ثلاثة منهم من يدَيّ. كان الأمر مروّعًا، لا يمكن وصفه حتّى. لقد شعرتُ بأنّني على وشك أن أموت. عندما سحبوني رأيتُ دماء معتقلين آخرين على الأرض. أنا أيضًا كنتُ أنزف من ذراعي اليمنى، وقبل ذلك لم ألاحظ ذلك.

جلبوني إلى القسم 27، ألقوني على الأرض في الساحة، وهناك أيضًا ركلوني عدّة مرّات في أجزاء مختلفة من جسمي. ساد هناك صمت مطبق، رغم وجود معتقلين آخرين. بعدها أمروني بالوقوف، لكنّني لم أستطع، فسحبوني مرّة أخرى من يدَيّ إلى الزنزانة رقم 3، وألقوني بجانب الزنزانة. فتحوا الباب وأحضر أحدهم قنّينة شامبو كبيرة وسكبها في داخل الزنزانة، قرب الباب، ثمّ وضعوني على الشامبو ودفعوني بأقدامهم بقوّة على أرضيّة الزنزانة. انزلقت حتّى اصطدمت كتفي اليمنى بإطار السرير. أصيبت كتفي من جرّاء ذلك وما زلتُ أعاني من هذه الإصابة حتّى اليوم.

عندما وصلتُ إليها كانت الزنزانة خالية من المعتقلين، ولم يكن فيها سوى أسرّة حديديّة، بلا بطّانيّات أو فرشات أو أيّ شيء آخر. ثمّ أحضر السجّانون معتقلين آخرين ووضعوهم في الزنزانة بنفس الطريقة. معظمهم أصيبوا برضوض أو جروح من جرّاء اصطدامهم بالأسرّة الحديديّة. كان أحدهم ينزف من أنفه. بقينا مطروحين هكذا نصف ساعة. كنّا مصدومين تمامًا ممّا حدث لنا، ولم نكن قادرين على الحركة. كنا في الزنزانة 12 شخصًا.

لم تكن الزنزانة تحتوي على أبسط الأشياء المطلوبة للعيش. نمنا أربع ليالٍ على الأرض، دون بطّانيّات أو فرشات. في اليوم الأوّل لم يحضر لنا السجّانون طعامًا على الإطلاق. أصبح جسمي واهيًا جدًّا، وتوقّعتُ أن أموت في أيّ لحظة. لم أجرؤ حتّى على طلب أدويتي، لأنّني كنت أخشى أن يضربوني أو يضربوا الآخرين بسبب ذلك. في الأيّام التالية كانوا يحضرون لنا وجبة واحدة يوميًّا، في الليل، وكانت تشمل بعض الأرزّ ونصف حبّة بندورة ونصف خيارة وثلاث شرائح خبز لكلّ معتقل.

وكان علينا أثناء العدّ أن نركع على الأرض ورؤوسنا محنيّة نحو الأرض وأيدينا على رؤوسنا

كانوا يعدّوننا ثلاث مرّات في اليوم. وكان علينا أثناء العدّ أن نركع على الأرض ورؤوسنا محنيّة نحو الأرض وأيدينا على رؤوسنا. لقد اعتادوا على تصويرنا ونحن في هذه الوضعيّة.

في اليوم الخامس نقل عناصر وحدة "كيتر" المعتقلين الـ 12 جميعهم من الزنزانة إلى القسم رقم 28. ظلّوا يضربوننا، صفعًا وركلًا، حتّى وصلنا إلى الزنزانة رقم 3. كان ذلك أثناء صلاة العشاء، وسمع السجّانون أحدهم يدعو إلى الصلاة. ألقوا قنبلة صوتيّة إلى داخل الزنزانة التي أدخلونا إليها، وذهبوا بسرعة إلى الزنزانة رقم 1. هاجموا كلّ الذين كانوا فيها وسمعنا المعتقلين يصرخون. استمروا في ضربهم طوال نصف ساعة دون توقّف.

بقينا في هذا القسم عشرة أيّام. كان الأمر الأكثر رعبًا في تلك الفترة هو الليالي، لأنّ القوّات كانت تقتحم الزنزانة ليلًا، وتهدّدنا صراحة بالقتل، وكانوا يضربوننا بشدّة. كما كانوا يشغّلون موسيقى صاخبة في الليل. طوال تلك الفترة لم يكن لدينا بعد بطّانيّات أو فرشات. خلال الأيّام العشرة بقينا أحياء بصعوبة وشعرنا بأنّ الموت يتربّص بنا في كلّ دقيقة. نقلونا بعد ذلك إلى القسم رقم 22، على بعد 500 متر عن الزنزانة التي كنّا فيها. وصلت قوّة من وحدة "كيتر" وأخذتنا مقيّدي الأيدي ومحنيّي الرؤوس، وتعرّضنا طوال الطريق لعنف شديد. تلقّيت أنا قرابة خمسين لكمة في أجزاء مختلفة من جسمي. سقطت على الأرض فانهال عليّ بالضرب أربعة من عناصر الوحدة لمدّة خمس دقائق عقابًا لي على ذلك. بعدها سحبوني من يدَيّ إلى أسفل درج حديديّ، نحو 20 درجة، وكانوا في أثناء ذلك يركلونني على رجلَيّ.

أثناء النقل أمرونا، وهم يصرخون علينا، بأن نشتم السنوار وحماس. بسبب شدّة العنف اضطررنا أن نشتم حماس وأن نفعل كلّ شيء طلبوه منّا، فقط حتّى يتوقّف السجّانون عن ضربنا. شعرنا بانعدام الحيلة بشكل فظيع. كنّا معزولين تمامًا عن العالم. أخذونا إلى الزنزانة رقم 14 واعتقلونا فيها خمسة أيّام، وكنّا هناك أيضًا دون بطّانيّات أو فرشات. بعد خمسة أيّام أحضروا فرشة لكلّ أسير.

في 18.11.23، وقت إجراء العدّ، دخل إلى الزنزانة خمسة من عناصر وحدة "كيتر" وعدد كبير من السجّانين الآخرين بقيادة ضابط وهاجمونا بذريعة أنّهم يبحثون عن جهاز راديو. ضربونا بالهراوات ولكمونا وركلونا على جميع أنحاء الجسم+، كما أدخلوا كلبًا إلى الزنزانة هاجم معتقلًا شابًّا وخدشه في ظهره خدشًا كبيرًا.

كان الجميع من حولي يصرخون من شدّة الألم، وكان بعضهم يبكي. كان الدم ينزف من معظمهم

تعرّضنا جميعًا لإصابات بالغة في هذا الهجوم. عندما انتهى الأمر استلقينا على الأرض. اتّكأتُ أنا على الحائط. كنتُ أعاني من كسور في ضلوعي وأُصبت أيضًا في كتفي اليمنى وفي إبهام يدي اليمنى وأحد أصابع يدي اليسرى. لم أستطع التحرّك أو التنفّس طيلة نصف ساعة. كان الجميع من حولي يصرخون من شدّة الألم، وكان بعضهم يبكي. كان الدم ينزف من معظمهم. كابوس لا يوصف. أبلغنا الضابط بأنّه سيعود إلينا في المساء أيضًا.

استلقينا هناك وانتظرنا، مذعورين، خائفين حتّى الموت، لكن في تلك الليلة لم يهاجمونا مرّة أخرى. في تلك الليلة هاجم عناصر وحدة "كيتر" معتقلين في زنازين أخرى، بحدّة جعلت صراخهم يعمّ أرجاء السجن. في اليوم التالي علمنا بأنّ عناصر وحدة "كيتر" قتلوا الأسير ثائر أبو عصب. في تلك الليلة أقام السجّانون حفلة في القسم 21: شغّلوا موسيقى صاخبة ورقصوا مع الجنديّات وشتموا حماس والسنوار.

مكثت في هذا القسم أكثر من خمسة أشهر. بعد الإعلان عن موت أبو عصب خفّت وتيرة الضرب. وبعد خمسة أيّام من هذا الهجوم جاءوا وأخبروني بأنّهم سيأخذونني إلى العيادة. رافقني أربعة من أفراد سلطة السجون، لكن بدلًا من الذهاب إلى العيادة أدخلوني، بغتةً، إلى غرفة ودفعوني إلى الأرض، ثمّ ضربوني وركلوني على رِجلَيّ. أعادوني بعدها إلى الزنزانة دون أن أرى طبيبًا بتاتًا. طوال هذه الفترة كلّها كنت أتناول قرصًا واحدًا لمرض السكّري مرّة واحدة في اليوم، لكن لم أتلقَّ بقيّة الأدوية التي أحتاج إليها. أصبح جسمي هزيلًا جدًّا. كنّا نحصل على قدر قليل من الطعام، وحتّى مياه الشرب كانت محدودة: سُمِح لنا بالحصول على زجاجة مياه واحدة لنا جميعًا طوال النهار. كانوا يقطعون مياه الحنفيّة عنّا ويُعيدونها ساعة واحدة فقط في اليوم. انتشرت رائحة كريهة من المرحاض. تفشّت بين الأسرى أمراض جلديّة خطيرة، منها أحد أنواع الجَرَب.

لم تكن هناك إضاءة أيضًا، لا في الليل ولا في النهار، باستثناء ثلاث دقائق أثناء العدّ، كما مُنعنا من الصلاة. أثناء العدّ، طُلب منّا أن نركع محنيّي الرؤوس، بوضعيّة السجود.

في أحد الأيّام دخلوا إلى الزنزانة مرّة أخرى وضربونا بعنف شديد، بذريعة أنّ لدينا ولّاعة في الزنزانة. ركلني أحد عناصر "كيتر" على أذني اليسرى، وما زلت لا أسمع بها حتّى اليوم. استمرّ الوضع على هذه الحال حتّى إطلاق سراحي، بعد ستّة أشهر من الاعتقال الإداريّ.

في ساعات ما بعد الظهر من يوم إطلاق سراحي، في 7.4.24، قيّدوا يدَيّ خلف ظهري بأصفاد حديديّة، كما قيّدوا رِجليّ وعصبوا عينيّ، ثمّ أمسكني أحد السجّانين بعنف من رقبتي واقتادني إلى غرفة الانتظار الواقعة على بُعد 500 متر عن الزنزانة. في الطريق ضربوني على ظهري وشتموني وأهانوني، وشعرت بأنّني قد أفقد الوعي. مشيت من دون أن أعلم إلى أين أسير، إطلاقًا. لم يبلغني أحد بأنه سيتم الإفراج عني. ألقوني في غرفة الانتظار التي كانت قذرة سويةً مع معتقلَين آخرَين. فيما بعد أخذوني من هناك ليجروا عليّ تفتيشًا وأنا عارٍ. جرّدوني من ملابسي بينما كانت عيناي لا تزالان معصوبتين، وضربوني في أثناء ذلك. قالوا لي: "أنت حماس"، وضربوني على مناطق مختلفة من جسمي عندما كنت عاريًا تمامًا.

أعادوني بعد ذلك إلى غرفة الانتظار، ومن هناك أخذوني إلى غرفة مدير السجن. وقّع على ورقة صغيرة ثمّ أعادوني إلى غرفة الانتظار. في الطريق تلقّيت المزيد من الركلات. بعد مرور ساعة قيّدوني أنا والشابّين الآخرين واقتادونا إلى حافلة السجن التي أقلّتنا إلى معبر "ميتار"، جنوب مدينة الخليل. وهناك تمّ إطلاق سراحنا. لم أفهم لماذا ضربونا بكل هذه القسوة في يوم الإفراج عنا، إذ لم يتّهمونا بأي شيء.

أنزلوني هناك ولم أستطع المشي بعد كل الضرب الذي تلقيته. تقدمتُ زحفًا مسافة نحو مائة متر. كان شهر رمضان وقتها وبالكاد كان ناس في الشارع، حتى توقف شخص ما وأقلّني إلى المنزل.

عندما رأتني زوجتي وأولادي، انهارت زوجتي وأغمي عليها. حتّى أنّ أحد أطفالي سألني "من أنت وأين والدي؟". وصلنا إلى المنزل ومكثت هناك بضع دقائق فقط ثمّ أخذوني إلى المستشفى. أجروا لي شتّى أنواع الفحوصات، بما في ذلك CT، وحقنوني بالأدوية. وجدوا لديّ كسورًا وكدمات وإصابات في عظامي. تعرّضت سبعة من أضلاعي لإصابات وكان لديّ ثلاثة كسور في يدي اليسرى. لا أسمع في أذني اليسرى حتّى الآن. نقلوني من هناك إلى مستشفى آخر في حلحول. وهناك أجروا لي المزيد من الفحوصات ثم أخلوا سبيلي.

عدت إلى المنزل في حالة صحّيّة سيّئة جدًّا. لم أستطع النوم بسبب كثرة الأوجاع وشدّتها. كنت أعاني من ضيق في التنفّس وصداع وطنين قويّ في أذنَيّ، وفي النهاية ذهبت إلى أحد مستشفيات الخليل مرّة أخرى. أجروا لي المزيد من الفحوصات هناك وأعطوني المزيد من الحقن والأدوية. سرّحوني إلى المنزل وسيكون عليّ العودة للمراجعات.

عندما اعتقلوني كان وزني 96 كغم، ويوم خرجت من السجن كان وزني 65 كغم.

بعد أسبوع من إطلاق سراحي استدعوني لمقابلة "الشاباك". في يوم الأحد، 14.4.24، سافرتُ إلى "عتصيون" رغم أنّ حالتي الصحّيّة كانت لا تزال متردّية جدًّا. قابلت هناك ضابط "شاباك"، فهدّدني بأنّهم سيعتقلونني مرّة أخرى إذا شاركتُ في أيّ شيء أمنيّ. ثمّ سمحوا لي بالعودة إلى المنزل.

حاولت في هذه الإفادة أن أفصّل بعض ما أتذكّره من رحلة العذاب، التنكيل والمعاملة القاسية في سجون إسرائيل. لكن من المهمّ لي أن أشير إلى أنّ ما عانيت منه أنا هو نقطة في بحر مقارنةً بما يتعرّض له المعتقلون من غزّة من تنكيل قاسٍ. رأيتُ كيف أبقوهم مقيّدي الأيدي والأرجل وعراة تمامًا في الساحة، في البرد. قدّموا لهم الطعام بينما كانت أيديهم وأرجلهم مربّطة، فاضطرّوا إلى تناول الطعام وهم راكعون على الأرض مثل الحيوانات، وفي خلال ذلك كان السجّانون والسجّانات يضربونهم ويشتمونهم وينكّلون بهم. لكل معتقل في العالم حقوق، لكن منذ 7 تشرين الأول لم تكن هنا أي حقوق. جميع هذه الأفعال ارتكبها أشخاص هم موظفو دولة.

عمري 53 عامًا، اعتقلتُ عدّة مرّات في السابق. في الفترات السابقة التي أمضيتها في السجن لم أشهد أو أتعرّض للضرب والإذلال والقسوة كما حدث في هذا الاعتقال الذي تعلّمتُ خلاله جملتين جديدتين ـ "رأسك لتحت" و"هذا هو الموجود"، عندما طلبنا طعامًا أفضل بقليل.

_ سجّلت الإفادة باحثة بتسيلم الميدانيّة منال الجعبري في 15.4.24