إلى أسيرة محررة التقينا يوما ما

  

هدايه صالح شمعون

1-4-2024

على رؤوس أصابعي تعيش الحيوات جميعها، تنهمر أمطار ديسمبر، وملوحة البحر في شفتي، يغرق شعري حتى الثمالة بلون أسود كثيف، ينسدل كليل العشاق الطويل، يلفه حول عنقي في حركة مباغتة يتفصد عرقي، سكاكين تنغرز في عنقي المقدد/ هكذا وصفته جدتي دوما، ذلك العنق الذي أذاب عقول شبان الحي، أبيضَ كالثلج شامخا مشرئبا يملأ العيون غنجا ودلالا، يمضي كأنه وحده في الطرقات المغبرة، بدا لهم دوما كإله جميل يتخفى على الأرض وفي طرقات المخيم المهدورة كرامته، هكذا قالت جدتي: عيون شبان الحي تأكلك يا صبية..

كنت أضحك فيلتف شعري من حولي كفراشات تتلألأ في أسطر منتظمة الصنع، تطير لكنها لا ترحل عن بساطي شعري الأسود الناعم، كنت أقهقه أحيانا سعيدة بجدتي الجميلة رغم تهدل عينيها، وتجعد بشرتها البيضاء.

تتدخل أمي في الحديث: هي أنت يا أمي أيام شبابك..

تعلو ضحكاتنا الدار، يصحو أحمد يقترب وعينيه لازالت تحلم بالنوم العذب.. يمسك شعري ويغفو عليه من جديد..

تبتسم أمي بينما تقطع أوراق الملوخية، تلوح جدتي للصغير المتهدل على شعري كورق الخريف

يا صبي، اترك الصبية لحالها.

أبتسم وأغطيه بشعري/ الآن شعري في غرفة التحقيق متسخ عارٍ من التألق، خشن بفعل يده النجسة، كان يلفه على يده فيؤلمه طوله فينادي المجندة المكتنزة وترمقني بعيونها الصفراء، كلما لاحت في الأفق شعرت برغبة بالتقيؤ كانت بلا لون، باردة كلوح ثلج لا يذوب أبدا، بينما ألمح بما تبقى من ظل في الغرفة ألفاظ ابتسامة تخيم على شفتيها..

المجندة: أمرك سيدي.

الضابط: تعرفين جيدا سبب وجودها هنا..

المجندة: لتنطق سيدي وتعترف

الضابط: افعلي ما يحلو لك، سمعت أنك لم تحبِّ صراخها

المجندة: ...

كانت قد أصبحت ملتصقة بي، وفي ثوان لم أعدها كان شعري الطويل قد أصبح ملفوفا على يديها الغليظتين..

كنت لازلت يقظة رغم صمتي، كان هنالك من يقتلع جذور أشجاري جذرا جذرا، كمنجل يحمله مارد ويجز عنق أعشابي جزا، كان الألم أكبر مني، كنت ألمح أحمد النائم بهدوء ويلتحف شعري، كان هناك شيء يتمزق شيئا فشيئا، صراخي جلل في السجن العالي الأسوار، يخترق صمت العتمة، يهشم الأنوار الفجة التي تسيل منها رائحة الموت، كان جسدي يرتفع عن الأرض ويلثم الأشواك في حركة دائرية مميتة، تتمزق ثيابي في طريقها للحياة، أهبط قليلا وأدور في حلقة من الألم، كانت اللحظات عتيقة دامية، وصراخي يشق السماء، تبكيني الجدران التي تلطخت من دمي المنسكب، تحفر شظايا الحياة حين تندمج بالوجع.. أراهم يجهزون كفنين أحدهما لجسدي الصغير والآخر لبقايا شعري الطويل المنسدل إلى الأرض، لم أضع يوما فيه مقصا، كنت أربيه كطفل وليد كنت أمه، كان يرضعني، وأصبحت هو، كانت الشمس تغيب وبقايا هذيان يرحل، أفيق/أموت كل لحظة، فقدت بوصلة الوقت والمكان، كانت الدماء تنزف من عقلي/قلبي، والألم لا أطيقه..

لمحني من بعيد..

سلمى..

سأعود يا سلمى لا تمنحي شعرك لغيري..

خجلت يومها واختبأت خلف جدران بيت هالك

لم يقترب، لم يلمس شعري.. لكنه هتف من جديد: سلمى..

أومأت له برأسي وهرول شعري يغطي وجهي المضرج بالخجل، ينتظرني الآن لا زال منتظرا بلهفة المسافر..

صرخت/أفقت وقنابل تنفجر برأسي كنت لا زلت على ذات الأرض، أكوام من الشعر الممزق أضمها بين يدي، ملطخة بالدماء، كانت لا زالت مكانها كحائط خامس في غرفة التحقيق، كنا وحدنا.

قالت بحقد: تحبين شعرك إذن...!!

لم أستطع أن أمنع دموعي من الانسياب كنهر جارٍ من شدة الألم، كنت بين الحلم واليقظة، أغفو على صوت أحمد الصغير، وهمسات جدتي، وابتسامة أمي، لم أسمع صوتهم حين دخلوا وصلبوني على أحد الجدران، كنت أشعر أني صغيرة جدا مقارنة بأجسادهم المفتولة، تقدمت هي كغول يقترب من عصفور بري وعذبه حتى تمكن من اصطياده، لمع في وجهي كبرق شقني نصفين، وضحكاتهم تكبر وتكبر في رأسي، رأيته يتساقط/ عمري يتساقط أمامي يوما يوما، ذكريات طفولتي وشبابي بالمنجل تجزها المجندة، بالمقص الفضي جزعت ما تبقى..

حملوني إلى غرفة أخرى وأنا بين الحلم واليقظة، وصلبوني من جديد أمام مرآة بعرض الحائط، حائط سادس في الغرفة إلى جانبها ورأيت تلك البالية في ملابس رثة، وجسد ممزق، كانت كأنما ضوء يغزو رأسها، أحست بالصقيع/أحسست بالصقيع، تقدمت أصابعي أنا من ذلك الرأس في المرآة/ من رأسي كان خاليا فارغا ميتا، لفظت الحيوات أنفاسها في أصابعي الخمسة.


ملاحظة: النص أعلاه قصة قصيرة بعنوان "المنجل" مهداة لأسيرة فلسطينية من غزة محررة التقيتها يوما ما، سردت حكايتها مع الاعتقال.

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة