عاطف عواودة (53 عامًا)، أب لسبعة، من سكّان دير سامت في محافظة الخليل

   

بتسيلم - 20/4/2024

أنا تاجر. لديّ أربعة أولاد دون سنّ 18 عامًا. في 28.8.23، قرابة الساعة 3:30 فجرًا، حضرت قوّات الجيش و"الشاباك" واقتحمت منزلنا. كانوا يبحثون عن ابني أحمد (19 عامًا) بدعوى أنّه مطلوب من قبل "الشاباك". لم يكن أحمد في المنزل. كان في جنين. حطّم الجنود كلّ شيء في المنزل واعتقلوني أنا واثنين من أبنائي: علاء (23 عامًا) ووجيه (29 عامًا). وكان الجيش قد اعتقل ابني وجدي (24 عامًا) قبل شهر. حينذاك أيضًا جاءوا إلى منزلنا وبحثوا عن أحمد بدعوى أنّه مطلوب، وعندما لم يجدوه اعتقلوا وجدي.

أهانني الجنود وعناصر "الشاباك" أنا وأبنائي، شتمونا وهدّدونا. أخذونا إلى منشأة الاعتقال في سجن "عتصيون"، جنوب بيت لحم، واحتجزونا هناك لمدّة تسعة أيّام. كنا أنا وعلاء في الزنزانة نفسها، وفصلوا عنّا وجيه. تمّ إطلاق سراحه بعد بضعة أيّام. كانت الظروف في "عتصيون" صعبة للغاية، لأنّ الموجودين هناك هم جنود وليس من مصلحة السجون.

أرادوا منّي أن أسلّم ابني وعرضوا عليّ إطلاق سراحي مقابل ذلك. رفضت بالطبع. فأنا لم أكن أعرف أين هو بالضبط، أصلاً. في 8 تشرين الأوّل قتَل الجيش ابني في جنين. ورغم ذلك، أبقونا رهن الاعتقال.

في 7.10.23 أبلغتنا إدارة السجن بمنع تقديم العلاج الطبي للأسرى "الأمنيين"، باستثناء مرضى السكري وضغط الدم المرتفع. ولم يحصل أحد على العلاج

بعد ذلك نقلوني أنا وعلاء إلى سجن "عوفر" مُكبَّلَي الأيدي والأرجل. عندما وصلنا إلى "عوفر" وضعونا أوّلًا في غرفة الانتظار، وهي زنزانة صغيرة جدًّا من الباطون المسلّح لا تحتوي على أيّ شيء. بعد ذلك أدخلونا إلى الزنزانة رقم 9 في القسم 26.

كان يتواجد في زنزانتنا محمّد الصبّار (23 عامًا)، من بلدة الظاهريّة جنوب الخليل. كان يعاني من مرض معويّ منذ صغره وهو يحتاج إلى رعاية طبّيّة وغذاء خاصّ مع كثير من السوائل. حاولنا مساعدته قدر استطاعتنا. اشترينا له الطعام من "الكانتينة"، وطبخنا له. لكن، منذ أن بدأت الحرب وتغيّرت الظروف بدأ يعاني كثيرًا.

في البداية كان الوضع عاديًّا. هذا سجن بالطبع وأنت سجين فيه، لكن كنت تشعر مع ذلك أنّ لديك حقوقًا. هذا ما كان حتى اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7.10.23. عندئذ أبلغتنا إدارة السجن بمنع تقديم العلاج الطبي للأسرى "الأمنيين"، باستثناء مرضى السكري وضغط الم المرتفع.. ولم يحصل أحد على العلاج في الحقيقة. عندما كنّا نشكو من مشاكل طبّيّة كانوا يقولون فقط: "اشرب ماء" أو، على الأكثر، كانوا يعطوننا قرص أكامول. لم يقدّموا لنا أيّ أدوية أخرى.

هذا كله تسبب ببدء رحلة المعاناة للأسير محمد الصبار. كان الطعام الذي جلبوه جافًا يخلو من المركبات المطرّية. معظم ما أحضروه كان عبارة عن البقوليات وهو ممنوع من تناوله لأنه يسبب له انتفاخ الأمعاء. كنت أتحدث كل يوم إلى الضابط وأشرح له ضرورة نقل محمد إلى المستشفى. في المرحلة الأولى عانى من الإمساك الشديد ولمدة 12 يومًا لم يتبرّز. تحدثت إلى إدارة السجن وطلبت أن يحضروا حقنة شرجية لمساعدته على التخلص من الفضلات. بعد طلبات عديدة أحضروا له الحقنة.

ي تلك المرحلة كان محمد الصبار يعاني من فقدان الذاكرة وصعوبة في الرؤية. لم يكن يعلم حتى كم من الوقت قد أمضى في السجن. كان يحتاج إلى رعاية ممرض مختص ونقله إلى المستشفى لأن ما كان بحاجة إليه لم يتوفر في السجن

بعدما تدبرنا هذه المسألة، شرعنا بالاهتمام بشأن غذائه قدر المستطاع في ظل الطعام القليل الذي نملكه. كنت أحضر له قطعة صغيرة من الخبز كل ربع ساعة وبعض اللبن. حاولنا السيطرة على حالته الصحية لئلّا يتضرر كثيرًا بسبب الطعام.

لم يعد يُسمَح لنا بطبخ أيّ شيء، كما مُنعنا من الشراء من "الكانتينة". وعدا عن أنّهم منعونا من الشراء من "الكانتينة"، فقد حدّدوا لنا كمّيّات الطعام، وصارت نسبتها أدنى من 20% من الكمّيّة العاديّة التي كانت قبل الحرب. كنّا ثمانية سجناء في الزنزانة، لكننا حصلنا على وجبة لا تكفي لشخص واحد. فقدَ معظم السجناء الكثير من وزنهم حتّى إطلاق سراحهم.

في تلك المرحلة كان محمد يعاني من فقدان الذاكرة وصعوبة في النظر. لم يكن يعلم حتى كم من الوقت قضى في السجن. كان يحتاج إلى رعاية ممرض مختصّ ونقله إلى المستشفى لأن ما كان بحاجة إليه لم يتوفر في السجن. كان بطنه منتفخًا طيلة الوقت.

بدأ السجّانون يأخذون منّا جميع ملابسنا، ولم يتركوا لنا حتّى أيّ ملابس بديلة لنرتديها. أخذوا المناشف والوسائد وبعض البطانيّات، ولم يتركوا سوى بطانيّة واحدة لكلّ سجين. حتّى موادّ التنظيف أخذوها منّا. صادروا أيضًا جميع الأجهزة الكهربائيّة، بما فيها التلفزيون وبلاطة الطبخ. صادروا منّا حتّى الأدوية. كما أزالوا الألواح الزجاجيّة من النوافذ وتركوا المصاريع فقط، حتّى نشعر بالبرد.

كان لكلّ واحد منّا "طقم" ملابس واحد، منشفة وبطّانيّة. البطانيّات كانت قصيرة. لم يكن هناك شامبو أو موادّ تنظيف. إذا رأوا أنّنا نرتدي قميصين، كانوا يأخذون واحدًا. إذا أردنا غسل الملابس، كانت بالكاد تجفّ، لأنّ الطقس بارد وليس هناك شمس. هم أصلًا أزالوا النوافذ، فأصبح الجوّ باردًا جدًّا.

كما ألغوا الخروج إلى الساحة، كان الآذان ممنوعًا. وقد صادروا المصاحف بالطبع. حتى أنّهم منعوا صلاة الجماعة في الزنازين وحين كان السجاّنون يسمعون صوت قراءة القرآن صادرًا من الغُرف كانوا يعاقبون جميع من فيها.

كانت هناك أيضًا عمليّات العدد. حتّى الحرب، عندما كانوا يحصون ويذكرون اسم السجين، كان عليه أن يقف فقط. بعد الحرب، تغيّر الأمر تمامًا. أضافوا المزيد من عمليّات العدد خلال اليوم. كانوا يدخلون إلى الزنزانة ثمّ يبدأ الإذلال.

كان في زنزانتنا، إضافةً إلى محمّد، سجينان مريضان آخران: أحدهما كان يعاني من مرض عصبيّ، والآخر من اضطراب نفسيّ.

أثناء عمليّات العدد كان يطلَب منّا أن نحشر أنفسنا جميعًا في آخر الزنزانة، وأن نركع أو ننبطح على الأرض ونخلع ملابسنا، ثمّ كانوا يفتّشون أجسادنا، وبعدها يأمروننا بارتداء ملابسنا، ويخرجوننا من الزنزانة، وكانوا يأخذوننا عادةً إلى الحمّام ويجرون تفتيشًا في خليّة الاستحمام. كانت هذه القصّة تستغرق عدّة ساعات. ذات مرّة أرسلونا إلى زنزانة أخرى وتركونا فيها ثلاثة أيّام. كنّا 18 سجينًا هناك، بدون فرشات. شعرنا بأنّ رسالتهم لنا هي: من ناحيتنا، موتوا.

كان السجّانون أو أفراد وحدة خاصّة يدخلون إلينا كلّ بضعة أيّام ويجرون تفتيشًا. وكما هي الحال في عمليّات العدد، فقد كان علينا أن نركع ونحني رؤوسنا. عادةً ما كانوا يدخلون مع كلب.

في اليوم الأربعين لوفاة ابني أحمد تلوتُ، ليلًا، آيات من القرآن بصوت مسموع تخليدًا لذكراه. في تلك اللحظة بالضبط دخل إلى زنزانتنا أفراد وحدة خاصّة مع كلاب. قيّدونا وضربونا جميعًا

في اليوم الأربعين لوفاة ابني أحمد تلوتُ، ليلًا، آيات من القرآن بصوت مسموع تخليدًا لذكراه. في تلك اللحظة بالضبط دخل إلى زنزانتنا أفراد وحدة خاصّة مع كلاب. قيّدونا وضربونا جميعًا [الشاهد يبكي]. كانت للكلّاب كمّامات، لذلك لم تتمكّن من العضّ، لكنّها مُدرَّبة على الهجوم مع كمّامات الفم هذه. انقضّ عليّ أحد الكلاب وأنا مقيَّد اليدين وخبطني على وجهي بكمّامة فمه هذه. كما خدشني الكلب في وجهي وأذني وكتفي. تعرّضنا جميعًا للهجوم بهذه الطريقة دون سبب. حتّى محمّد الصبّار هاجموه في ذلك اليوم. بعد ذلك أخرجونا من الغرفة وأجروا تفتيشًا فيها ثمّ أعادونا إليها. لم نحصل على أيّ علاج طبّيّ بعد ذلك.

كلّ انتقال من مكان إلى آخر كان ينطوي على إذلال شديد أيضًا، مثل خفض الرأس، والمشي بصمت تامّ، فإذا قلتَ كلمة ستتعرّض للضرب المبرّح. لا يهمّهم إذا كنت شخصًا بالغًا. يحصل الجميع على المعاملة نفسها من ناحيتهم.

كان الانتقال من سجن إلى آخر بمثابة كارثة حقيقيّة أيضًا. من كان يعلم بأنّه سيُنقل كان يدرك أنّه سيتعرّض لأمور قاسية. أنتَ تخرج بلا أيّ شيء، تخرج بالملابس التي ترتديها فقط، وتتعرّض للضرب والإذلال طوال الطريق. يضعون لك الأصفاد ويشدّونها بقوّة كبيرة جدًّا، وتظلّ مقيَّدًا هكذا لساعات. ثمّ يأخذونك إلى البوسطة (مركبة نقل السجناء)، وفي الطريق إلى هناك يضغطون رأسك إلى أسفل. وفي داخل البوسطة تتعرّض للضرب بلا توقّف.

في 14.12.23 نقلوني إلى سجن "نفحة". كان الوضع هناك أسوأ من الوضع في "عوفر". عندما وصلتُ إلى هناك أخذوا منّي كلّ ملابسي باستثناء القميص، وأعطوني بنطلون السجن. أخذوا منّي حذائي أيضًا وأعطوني شبشبًا. هناك، وضعوني في الزنزانة 18 في القسم 1، وكان فيها أيضًا خالد الشاويش، وهو سجين مريض آخر توفّي لاحقًا في السجن. كان مشلولًا وعانى كثيرًا لأنّه لم يحصل على أيّ علاج، وكان يعاني من قروح الضغط (قرحات الفِراش). بقيتُ هناك حتّى أطلقوا سراحي في شهر كانون الثاني، في 31.1.24، بعد نحو خمسة أشهر من الاعتقال الإداريّ. علمت بعدما تحررت بأن محمد الصبار توفي في السجن. كلّ الذين في السجن يحلمون فقط بإطلاق سراحهم وبالعودة إلى أسرهم. أمّا هو فلم يُطلَق سراحه ولم يعُد.

-  سجّل الإفادة باحث بتسيلم الميدانيّ باسل العدرا،