الأسير الفلسطيني ورحلة البحث عن معنى

  

  ايمن ناصر - "فارءة معي"

١-٤-٢٠٢٤

 

في الحرب العالمية الثانية ومن داخل معسكرات النازية كان فيكتور فرانكل عالم النفس النمساوي يواجه مصيره القاسي كما الآلاف الذين كانوا ضحايا ذهنية التقتيل والإرهاب وسطوة الدولة التي تعتقد أنها قادرة على الانتصار الدائم، في هذه الحرب فقد غالبية أبناء أسرته وتعرض لظروف مؤلمة، ولكنه خرج حيًّا وألّف كتاب "الإنسان يبحث عن معنى"، والقائم على فكرة مفادها بأن الإنسان وفي الظروف الصعبة كما الاعتقال وغيرها لا بد أن يكون مؤمنًا بفكرة أو قيمة ما حتى تكون له الزاد والدافع للاستمرار والانتصار.

بنى فرانكل فكرته على ملاحظته لقلة من الأسرى كانوا قادرين على الاستمرار والصمود وتقديم العون للآخرين رغم شح ما هو متوفر من مقومات الحياة، وارتباطًا بذلك قال جملته المشهورة "إنك تستطيع أن تسلب من الإنسان كل شيء إلا آخر الحريات البشرية" ويعني بذلك أنك تستطيع وضْع الإنسان في أي ظرف بفعل القوة، ولكن لا يمكن أن تحدد رد فعله فهو خياره الذي لا ينازعه به أحد.

ما بين الحرب العالمية الثانية والحرب الراهنة التي تشن على كل مكونات الشعب الفلسطيني مسافة من الزمن تقارب ثمانين عاماً، ولكنها بذات الجوهر والمضمون المبني على سطوة القوة والنظرة الفوقية للآخرين فالاعتقاد بنقاوة العرق وأحقيته بسحق الآخرين هو جوهر خلفية الفعل في كلا التجربتين.

لذلك يأتي يوم الأسير الفلسطيني في هذا العام متأثرًا بهذا السياق، فاعتقال ما يزيد عن عشرة آلاف مواطن أعزل والزج بهم في سجون بعضها قائم مسبقًا والآخر تم استحداثُه في ظل الافتقار لأدنى المقومات الإنسانية، فالاكتظاظ والحرمان من الطعام وعدم تقديم العلاج والإعدام بالضرب ونزع الملابس والأغطية وتركهم في العراء في ظروف البرد واستخدام الكلاب في التنكيل والحرمان من التواصل مع الأهل كلها تفاصيل لا تهدف إلى إشباع الرغبة بالانتقام فقط، بل تتعدى ذلك الى الهدف الأعمق القائم على فكرة كسر الروح المعنوية ورفع الراية البيضاء داخليًا أمام السطوة والقوة التي تستطيع أن تمارسها دولة الاحتلال في سبيل تأبيد سيطرتها وإخضاعها لشعب يرى أن الحرية متطلب أساسي لوجوده.

ما يتعرض له الأسرى الفلسطينيون في هذه الأيام لم يسبق له مثيل من حيث مبررات الاعتقال وسعته وما يرافقه من إجراءات وتنكيل وظروف الاحتجاز، فلم يسبق أن سقط شهداء في الأسر بهذه الكثافة، وبرغم ذلك الإيمان بعدالة القضية والاستعداد للتضحية ما زال العنوان الذي يتحدث عنه غالبية الأسرى ولم تأتِ كل الإجراءات التي تمارس بنتائجها، وهذا ما يفسر استمرار الاعتقالات وتكرارها مع بعض المفرج عنهم.

منذ بدايات القرن الماضي لم تتوقف المعتقلات التابعة للقوى التي تحتل البلاد عن استقبال أسرى فلسطينيين، فجميعنا يتذكر محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي وغيرهم الكثير الذين استمروا في حمل الراية في سبيل الحرية والانعتاق، فتبدل الأيام والقوى التي تحكم البلاد بسطوتها لم تمنع الأجيال من المضي قدمًا نحو حريتها، إنها إرادة الاستمرار المبنية على يقين الانتصار ولو بعد أكثر من جيل، فالنضال لا يمكن أن يتوقف حينما يكون مُؤطرًا بجدوى استمراره.

وهنا فإن وليد دقة لا يرى في ميلاد فقط ابنة بيولوجية تحمل اسمه وجزءًا من قسمات جسده وروحه، بل هي الامتداد لفكرة ميلاد الحلم بالحرية والقضية التي كافح في سبيلها أربعة عقود، وحينما صمد نائل البرغوثي أمام باب الحديد في سجن "إيشل" والذي بُدّل مرتين وهو في ذات الغرفة، وخضر عدنان كان يرى في جوعه حتى الشهادة طريقًا لرفض الظلم الواقع على شعبه ونافذة لعناق الحرية، إن كل ذلك ما كان له أن يتحقق لولا الإيمان بمعنى الحرية التي يكافحون في سبيلها.

أمام التضحيات الكبيرة والتي لا بد أن توضع في سياقها المتواصل عبر ما يزيد عن قرن من الزمن لا بد من إعادة النظر في كل الأدوات والطرائق التي نتبعها في التعامل مع قضية الاعتقال فالبحر الواسع من أعمار الأجيال التي ذهبت خلف القضبان في سبيل حرية كل الشعب تستحق الحضور الأكثر والأوسع، فحضور القضية يجب أن يتناسب مع حجم المعاناة والتضحيات".

في يوم الأسير وفي كل يوم يجب أن ننطلق من مبدأ مفاده بأننا أمام تضحيات مبنية على أعمار البشر. فليس الأسير فقط من يبحث عن معناه، بل هي مسؤوليتنا الجماعية لتحويل هذا اليوم إلى أكثر فاعليّة تذكيرًا بالتضحيات، بالحريات وبالمعاناة".


يشار الى ان هذا المقال أعد قبل استشهاد وليد دقة.