ما أن نسمع كلمة البوسطة؛ حتى يتبادر للمخيّلة الفنانة فيروز بصوتها الدافئ وأغنية "ع هدير البوسطة" وعيون عليا... لكن الواقع يختلفُ تمامًا عمّا هو راسخٌ بأذهان الأسرى الفلسطينيين الذين يعدّون "البوسطة" قبرًا متنقّلًا كونها وسيلةَ تعذيبٍ بقمّة الوحشيّة الصهيونيّة، حيث تستخدم إدارة سجون الاحتلال تلك الواسطة لنقل الأسرى بين السجون المختلفة، إضافةً لنقلهم من السجن إلى المشفى للعلاج أو للمحكمة ثمّ إعادتهم للزنازين.
من الزنزانة إلى المعبار!
منذ اللحظة الأولى لإبلاغ إدارة مصلحة السجون للأسير بموعد محاكمته، أو بقرار نقله إلى سجن آخر أو إلى ما يسمّى بالمشفى؛ بهدف العلاج، تبدأ رحلة القتل العمد، فيلجأ الأسير للصوم الطوعي عن الطعام والشراب تحسّبًا للضغوط اللاحقة... يعيش مأساة الرحلة القاتلة للكرامة الإنسانيّة... يلقي برأسه على المخدّة التي تتحوّل لسطحٍ من الشوك المانع للنوم أو حتى الإغفاء... يتحضّر لرحلة "الساعات البطيئة حدّ توقف العقارب عن الدوران"! ومع شروق الشمس تزداد العتمة إحاطةً بالأسير حيث يُنقل إلى "المعبار" الذي يمثّل نقطة تجميع الأسرى، ومحطّة العبور من الزنازين إلى "البوسطة"، وربما يستمرّ انتظارهم لساعاتٍ طوال، وربّما عدّة أيام في المعبار سيئ السمعة.. وهو عبارةٌ عن بناءٍ متهالكٍ مشبّعٍ بالقاذورات التي تتنافس عليها الحشرات.. يتعرّض الأسرى فيه للتفتيش العاري بشكلٍ استفزازيٍّ مهين، ثم يُجبرون على استبدال ملابسهم بلباسٍ داكنٍ بني اللون خاص بالسجناء.. يتكرّر التفتيش العاري مراتٍ عديدة، ثم تكبيل الأيدي بـ"الكلبشات" والأرجل بـ"الجنازير" التي تقيّد الحركة وتبطئ طريقة المشي؛ ما يعرضهم للمزيد من التنكيل والشتم والضرب، خاصةً أثناء صعودهم إلى "البوسطة" حيث تعيق القيود حركتهم، وربما يتعرّضون للوقوع والأذى... فيصب السجانون جام غضبهم على الأسرى المكبّلين؛ بهدف إهانتهم وكسر إرادتهم... رحلة الانتقال تلك تتولاها فرقة "النحشون" وهي فرقةٌ أمنيّةٌ صهيونيّةٌ خاصة "ميليشيا" وتعدّ من أقسى الفرق القمعيّة للأسرى، فتتفوّق بذلك على فرق "درور، متسادا، اليماز" المختصّة بالتنكيل بالأسرى وتفتيش غرفهم بوحشية... تبدأ مهمة النحشون "الأفعى" لحظة انتقال الأسير من السجن إلى المعبار فالمحكمة أو المشفى، ثمّ العودة للسجن..!
"البوسطة" قبر متنقل:
يغادر الأسرى المعبار صوب "البوسطة" التي تبدو من الخارج حافلةً حديثةً صالحةً للتنقّل بكل راحةٍ وإنسانيّة! لكن ما أن يدخلها الأسرى حتى يُصدَمون بواقعها، فينتقلون إلى مرحلةٍ جديدةٍ من "رحلة القهر والتعذيب".. تتواصل المعاناة بشكلٍ تصاعديّ، ما يجعلهم يترحمون على اللحظات التي قضوها في المعبار، خاصة عندما تتضح حقيقة الحافلة التي ينطبق عليها المثل العامّي "من برّا رخام ومن جوّا سخام"! فهي عبارةٌ عن صندوقٍ حديديٍّ مزوّدٍ بالكاميرات، مغلقٍ بالكامل سوى من بعض ثقوب التهوية التي لا تكاد تكفي لشخصٍ واحدٍ، ما يشبعها بالروائح الكريهة والمقرفة، كما تسرّب مياه الأمطار على الأسرى خلال الشتاء القارص... يقسم الصندوق إلى ثلاثة أقسام:
1. قسم عناصر النحشون المجهزون بالعتاد وأدوات التنكيل "هراوات، قيود بلاستيكية، ومعدنية، والكلاب البوليسية..".
2. قسم مزوّد بمقاعد حديدية ضيقة ومثقّبة مجهّزة لنقل أكثر من عشرين أسيرًا، يجلس عليها الأسرى المقيدون مع بعضهم البعض بالأيدي والأرجل.
3. قسم الزنازين الذي تُعزَل فيه الأسيرات الفلسطينيات وهن مقيدات الأيدي والأرجل، وهذا ينطبق على أسرى العزل وذوي المؤبدات والأحكام العالية...
كان لا بدّ من وصف البوسطة للتعريف بمدى قبح الاحتلال وتعامله القاسي مع الأسرى في الزنازين وخارجها خلال نقلهم بين الأمكنة المختلفة، حيث تقييد الأسرى مع بعضهم ضمن أضْيق مساحة تفرض عليهم عدم القدرة على الحركة، وحرمانهم من أبسط المعايير الإنسانية التي منحتها لهم كل الشرائع والقوانين الدولية، حيث يسمح لهم فقط بتناول الطعام مع القيد، وبشكلٍ مأساوي يمنع الأسرى خلال النقل من حمل المُصحف، كما يُمنعون من التحدّث والتدخين، أو طلب الاستراحة والإسعاف السريع للمرضى رغم استمرار رحلة العذاب لعشرين ساعةً وأكثر!
ومن أشكال التنكيل منع استخدام المصابين ومرضى الضغط أو السكري من استخدام المرحاض، وفي إحدى المرات اضطرّ أحد الأسرى لإمساك عبوة حتى يتبول بها زميله - وكلاهما مقيّد -! يطرق الأسرى جدران الخزان فيرفض السائق الاستجابة.. يرفع صوت المذياع، يضحك مع أعضاء النحشون بسخريةٍ وسط المزيد من التعذيب والتعدي عليهم.. يتمادى السائق في غيّه فيخفض السرعة ويزيدها بشكلٍ هستيري لترتطم رؤوس الأسرى بالحديد مع فقدهم القدرة على الحركة؛ نظرًا لضيق المسافة بين المقاعد، فتتفاقم آلام المفاصل والفقرات إلى جانب تأثر جنباتهم بثقوب تلك المقاعد المؤذية... تتضاعف تلك المعاناة بالنسبة للأسيرات اللاتي يتعرضن للمزيد من امتهان كرامتهن والتعدي على خصوصيتهن تحديدًا خلال مرورهن بالمرحلة الشهرية التي تحتاج معاملةً صحيّةً خاصة...!
رغم دعوة "المادة 127" من اتفاقية جنيف الرابعة نقل المساجين بوسائل نقل مريحة، إضافةً لقوانين منع الإهمال الطبي لهم، إلا أن مصلحة السجون الصهيونية "الشاباص" تتحايل على تلك القوانين وتتجاوز المعايير الدولية من خلال أخذ توقيع بعض الأسرى على إقرار بأنهم يتنازلون عن إجراء الفحوصات الطبية في عيادةٍ خارجيّة، هذا التنازل يلجأ له الأسير هربًا من رحلة العلاج عبر "البوسطة والمعبار" التي تنتهي بالمزيد من المعاناة والمرض للأسير فيبقى طريح الفراش أكثر من أسبوع بعدها. إنّ حصول الإدارة على إقرار الأسير برفض الفحص الطبي يعني تنازله عن حقّه بالعلاج كما يساعد الاحتلال على التملّص من العقاب والحساب رغم التزامه أمام المحكمة العليا في عامي 2008 و 2010 بتحسين ظروف نقل الأسرى... فيما يلي بعض مآسي النقل الإجرامي المُنافي للإنسانيّة والمواثيق الدولية...
مشاهدات ومناشدات:
حالتا نجوان وعمر تنطبق على المئات من الأسرى والأسيرات الذين يعانون من مشقة التنقل بالبوسطة التي تعدّ شكلًا من أشكال التعذيب النفسي والجسدي ما يدفعهم لتقبّل واقعهم الصحي السيئ ورفض العلاج الخارجي تفاديًا للمزيد من الآلام والمشقّات وأهوال البوسطة القاتلة للكرامة والجسد؛ ما يوجب المزيد من الضغط والمناشدات لتدخّل الهيئات والمؤسّسات الدوليّة لوقف تلك الجريمة النكراء بحقّ أسرى الحرب الفلسطينيين.
المصدر: بوابة الهدف الإخبارية