رام الله - مجد علي
اعتذرت الأسيرة الفلسطينية المحررة ميرا عن ذكر اسمها الحقيقي وطلبت إخفاءه إلى جانب بعض التفاصيل المتعلقة باعتقالها، خاصة محاولة الجندي تمزيق قميصها، إذ تفترض أن الأمر قد يؤذيها على المستوى الاجتماعي وحتى إلى عزوف الكثير من الفتيات عن خوض هذه التجربة في ظل المحاذير الاجتماعية التي قد تطغى أحيانا على الحس الوطني على حد قولها لـ "العربي الجديد".
وأجرت ميرا عملية موازنة وتقدير "عقلاني" للنشر، إذ كانت ترفض الحديث عن قصتها حتى لا تخلق الرادع أمام مشاركة الفتيات في النضال الوطني، لكنها في النهاية وافقت على البوح ولكن ضمن ضوابط تحمي خصوصيتها. وتؤكد الأسيرة المحررة لـ"العربي الجديد" أن ما تعرضت له من تعذيب واعتداء من قبل قوات الاحتلال لم يكن ليشكل لها إهانة بينها وبين نفسها، بل زادها تمسكا بموقفها الأساسي من الاحتلال. "لكن في مرحلة ما قد أكون ضحية نضالي على المستوى الاجتماعي، ولا يخفى على أحد التعليقات السلبية التي ترافق مشاركة الفتيات في النضال وخاصة في بعض الفعاليات مثلما جرى مؤخرا لدى المشاركة في المظاهرات على الحواجز، عندما يتعرض الإنسان للتجربة ولبعض المواقف التي ترافقها لا يكسر بنفسه ومن داخله، وبالتالي فمن المهم أن لا يشارك أحد هذه التفاصيل لكي لا تخلق صورا تشكل عائقا أمام البعض للمشاركة في المقاومة".
جانب مغفل في التغطية
أجرى مدير مركز دراسات الأسرى والمختص في شؤونهم رأفت حمدونة، العديد من الدراسات للقضية من بينها رسالة الدكتوراة الخاصة به "الجوانب الإبداعية للأسرى الفلسطينيين"، ومن واقع خبرته يؤكد أن السؤال المطروح عن تأثير نقل تفاصيل التعذيب على المجتمع الفلسطيني يحتاج لدراسات مكثفة ومستعجلة لأن هذا الجانب مغفل. مضيفا: "أعمل في مجال الأسرى منذ 30 عاما وللحقيقة فوجئت بهذا السؤال ولا أملك إجابة لأن الإجابة في هذا الموضع مسؤولية وطنية وأخلاقية".
ويؤكد حمدونة أن لا دراسات حتى اللحظة حول تأثير تغطية الإعلام الفلسطيني لقضايا الأسرى خاصة فيما يتعلق بقضايا التعذيب على المجتمع الفلسطيني، ومن المهم إجراء دراسات وأبحاث تكشف عن تأثير هذه التغطية على مواقف الأفراد وقرارهم بالانخراط في العمل المقاوم، ما يؤسس لخلق وبناء معايير جديدة للتغطية الإعلامية. وأوضح حمدونة أنه "قد نكون نعتقد أننا ننقل بشاعة الاحتلال ولكننا في المقابل نخلق رادعا أمام الناس".
منهجية تعبوية
أجرت "العربي الجديد" استبيانا شمل 100 أسير فلسطيني لسؤالهم عن قبولهم أو رفضهم نشر تفاصيل التعذيب، وأجاب 79% منهم بأنهم يعتقدون بأن المجتمع الفلسطيني محصن من الخوف من أساليب الاحتلال، وأن نشر تفاصيل التعذيب لا يمكن أن يردع أفراد المجتمع من ممارسة دورهم في النضال. ويؤكد الأسير المحرر سعيد بشارات في تعليقه على الاستبيان أن نشر معلومات حول تعذيب الأسرى يضر بصورة الاحتلال لكن المهم أن يتم الأمر دون تهويل، ويتفق معه الأسير المحرر علام الكعبي مع تشديده على ضرورة إظهار بطولات الأسير أيضا. في المقابل، يشدد الأسيران المحرران علاء العلي ومحمد بلوط أن نشر تفاصيل التعذيب يضر بالروح المعنوية للمجتمع الفلسطيني.
وبين الرأيين السابقين تقف الأسيرة المحررة وأستاذة علم الاجتماع في جامعة بيرزيت رولا أبو دحو والتي تدعو إلى نقل تفاصيل التعذيب ولكن من خلال منهجية تعبوية تبرز كذلك بطولة الفلسطيني وقدرته على مقاومة أساليب الاحتلال خاصة في التحقيق. مضيفة "أن المجتمع يجب أن يعرف حقيقة هذا الاحتلال وأن المعركة معه تطاحنية عنيفة".
وتستدرك أبو دحو بالقول إن المنهجية التعبوية فيما يخص قضايا الأسرى مفقودة في الإعلام الفلسطيني، والقيمة الأساسية التي يجب العمل عليها إعلاميا هي الصمود، ومن هذه القيمة يمكن الانطلاق بالتغطية وسرد تفاصيل أخرى بما فيها التعذيب، ولكن ما يجري أن هناك إغفال لتغطية حالة الصمود.
وشددت أبو دحو على أنه يجب أن يكون لنا روايتنا الوطنية التي تظهر علاقتنا الحقيقية مع الاحتلال. وحول تغطية تفاصيل التعذيب الذي تعرض له الأسير سامر العربيد بتاريخ 29 سبتمبر/أيلول الماضي وأدخل بسببه إلى المستشفى بحالة خطرة، ترى أن هناك نقدا لتغطية بعض وسائل الإعلام الفلسطينية لهذه القضية ولكن من المهم أن يعرف الجيل بجرائم الاحتلال.
إشكاليات التغطية
يرصد أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت معز كراجة مشكلة في التعاطي مع قضايا الأسرى، إذ يتطرق الإعلام الفلسطيني لهم عندما يكون هناك حدث مهم كالذي جرى مع الأسير سامر العربيد، مسندا ضعف الحركة الجماهيرية تجاه قضية الأسرى إلى تعاطي الإعلام.
وبيّن أن الفصائل الفلسطينية واجهت مشكلة في التربية الأمنية لأعضائها بسبب شرح تفاصيل ما يجري من تعذيب في السجون وهذا أدى لنتيجة سلبية باتجاهين: الأول، بعض الأفراد بسبب تصورهم المسبق عن وحشية التحقيق كان يدلي باعترافاته تجنبا لخوض التجربة وكان من الممكن في المقابل أن يعيش التجربة ويكتشفها بنفسه. الثاني، أن هذا السرد لتفاصيل التعذيب أدى ببعض الأفراد إلى الابتعاد عن العمل النضالي.
ووفقا لـكراجة فإن هناك شعرة بين التربية والتثقيف بما يتعلق بأساليب التحقيق الإسرائيلية وبين إثارة الرعب مما يدور داخل السجون. مضيفا: "هناك ضرورة لتقديم صورة معرفية حول ما يجري داخل التحقيق والسجون بدون نقل تفاصيل تؤدي إلى إرهاب الفرد، وهناك فاصل حيوي بين الحالتين. من المهم إيصال جوهر الفكرة الرئيسية حول التحقيق، ولكننا أحيانا نترك الفكرة ونركز على تفاصيل عملية التحقيق وأثرها وألمها، وهنا ننتقل من التوعية والتثقيف لإثارة الرعب".
وشدد كراجة على أن تفاصيل النتائج التي يتسبب بها التعذيب يمكن أن تقدم للأهل أو المؤسسات الحقوقية، لكنّ من الخطأ تقديمها للمجتمع لأن ذلك سيشكل رادعا لدى الكثيرين. "لكن الإعلام الفلسطيني لا ينتمي للسياق الاستعماري ولا يتعامل مع القضايا بسياق وطني، ويمكن وصفه بإعلام مدني أدواته ومنهجياته لا تتعامل على أساس أننا شعب يخضع للاستعمار" على حد قوله.
القدرة على الصمود
ألف الأسير المحرر وليد الهودلي، 17 عملا أدبيا ما بين رواية ومجموعة قصصية في أدب السجون، التزم فيها بمنهجية محددة تقضي بعدم إبراز مظاهر العنف الشديدة التي يمارسها المحققون من أجل ترسيخ فكرة أن التحقيق محتمل وإمكانية الصمود متاحة، مشيرا إلى أن كثيرين سألوه عن ذلك وكان رده: أنه لا يجب أن نساهم في انهيار المناضل قبل وصوله للتحقيق.
ويلتقي الهودلي مع أبو دحو في ضرورة الاهتمام بالصمود كقيمة أساس في التغطية الإعلامية لأساليب التحقيق الإسرائيلية، لكنه يرى أن عدم التعرض لتفاصيل التعذيب هو الذي يؤسس لصمود المعتقلين مستقبلا. مشددا على أنه "يجب أن لا نكون جزءا من الحرب النفسية التي يمارسها الاحتلال ضد شعبنا من خلال إرهابنا من أساليبه وأدواته، وهذا يتطلب التأكيد على أدوات الصمود".
خلق حالة من الخوف
تدعو أستاذة علم النفس في جامعة بيرزيت والأخصائية النفسية آمال دحيدل، الإعلام الفلسطيني للحذر في نقل تفاصيل معاناة الأسرى حتى لا تشكل إرهابا لشريحة من المجتمع ممن لم تتشكل لديهم المفاهيم الثابتة والعميقة.
وأوضحت أن الاحتلال يمارس هذا العنف لأكثر من هدف من بينها خلق حالة من الخوف لدى المجتمع وإرهابه. وشددت على أن الإعلام يجب أن يكون حذرا في نقل هذه التفاصيل بشكل لا يحبط الناس أو يثبط من معنوياتهم.
ويشارك أستاذ علم النفس في الجامعة الإسلامية والأسير المحرر أنور العبادسة الدكتورة دحيدل الرأي في أن بعض المعلومات التي ينشرها الإعلام بخصوص التعذيب في سجون الاحتلال قد يؤدي بالبعض للخوف من ممارسة العمل النضالي، لكنه يعتقد بأن اختلاف البيئات بين الضفة الغربية وقطاع غزة مهم في دراسة تأثير هذه المعلومات، إذ إن إمكانية الاعتقال الكبيرة في الضفة تؤسس لحالة أكبر من التردد من القيام بعمل مقاوم. مضيفا: "لا شك أن هذا الأمر قد يكون من المعوقات أو الروادع للدخول في العمل المقاوم".
وأشار العبادسة إلى أن الاحتلال منع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط من الحديث عن تجربته في الاحتجاز لدى المقاومة الفلسطينية لسببين رئيسيين: الأول، إن حديثه عن معاملة حسنة من قبل المقاومة يضر برواية وسمعة الاحتلال ويشير لأخلاقية العمل المقاوم والمقاومين، بالإضافة إلى أن ذلك يقلل من مخاطرة جنود الاحتلال بخيار الموت بدلا من الأسر. الثاني، إن حديثه عن معاملة سيئة من قبل محتجزيه يزرع الخوف لدى الجنود الإسرائيليين من خوض جولات قتال مع المقاومة الفلسطينية. وأوضح أستاذ علم النفس العبادسة أن هناك مسؤولية وطنية ملقاة على عاتق الإعلام الفلسطيني وخاصة في قضية الأسرى، وأن من المهم الاتزان في الطرح بين إبراز المعاناة والمظلومية وإبراز البطولة.
ولابد من الخروج بخطاب علمي يخص تغطية قضايا الأسرى ويمكن إدراك تأثيراته بشكل مسبق كما أجمع المختصون السابقون، وهي الفكرة التي شدد عليها أستاذ الإعلام كراجة قائلا: "نحن بحاجة إلى قاموس مصطلحات ولغة مفاهيمية تساهم في تغطية قضايا الأسرى بشكل منهجي بدون تأثيرات سلبية، وهذا يحتاج لورشات عمل يشارك فيها أخصائيون من علم النفس والاجتماع والإعلام وأسرى محررون وجهات رسمية".
المصدر : موقع العربي الجديد - 04 نوفمبر 2019