احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين: تاريخ طويل من العنف الاستعماري

  

احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين: تاريخ طويل من العنف الاستعماري

بقلم :حسين شجاعية

2024

يمارس الاستعمار الصهيوني منذ بداياته الأولى سياسات واضحة تسعى للسيطرة على مناحي الحياة كافة، المحسوسة منها وغير المحسوسة. وقد ورث الاستعمار سياساته الاستعمارية من الانتداب البريطاني الذي مهّد وساهم في قيام دولة الاحتلال. وتشمل هذه السياسات: السجون، وجدار الفصل الاستعماري، والحواجز، وأبراج المراقبة، وسياسات الضم ومُصادرة الأراضي، والقتل، وانتهاك حقوق الإنسان. وبالإمكان القول إن هذه السياسات الاستعمارية تشكل ممارسات يمكن رؤيتها وإدراك أثرها المباشر في المجتمع الفلسطيني، غير أن الاستعمار الصهيوني لطالما لجأ إلى ممارسات وأساليب أُخرى يكون أثرها خفياً وغير ظاهر، ضمنها سياسة احتجاز جثامين الشهداء.

 

تناقش هذه الورقة التاريخ الطويل لاحتجاز جثامين الشهداء، والدوافع الكامنة وراء هذه السياسة، وتصاعد هذه السياسة منذ بداية حرب الإبادة على غزة، وذلك بالاعتماد على إحصاءات رسمية حول سياسة احتجاز جثامين الشهداء، وتحليل ما كُتب عن القضية، بالإضافة إلى شهادات عائلات الشهداء المحتجزين، وتحليل المعلومات والإحصاءات المتوفرة لدى الحملة الوطنية بشأن احتجاز جثامين الشهداء.

 

احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين: تاريخ طويل من العنف

يمكن تعريف سياسة احتجاز جثامين الشهداء بأنها حرمان العائلات الفلسطينية من حقها في وداع أبنائها الشهداء ودفنهم في المكان الذي تختاره وفق طقوسها ومعتقداتها، إذ يقوم الاحتلال الإسرائيلي بسرقة جثامين الشهداء بعد الاستشهاد والاحتفاظ بها لفترات متفاوتة في مقابر الأرقام، أو في ثلاجات الموتى، ومؤخراً في معسكر "سديه تيمان".[1]

ويذهب الاحتلال إلى أبعد من سرقة الجثامين واحتجازها حين يحرم العائلات من حق التحقق من استشهاد أبنائهم، ومنعهم من رؤية ومعاينة الجثامين، مبرراً هذه السياسة بأنها تشكل أوراق ضغط ومساومة على المقاومة الفلسطينية في أي صفقة تبادل قادمة، بيد أنها لا تشكل إلاّ محاولة للسيطرة على الفلسطيني، حياً وميتاً، ووسيلة لردع الفلسطينيين عن مقاومة الاحتلال.[2] فقد يصبح جسد الفلسطيني منشبكاً "في الحقل السياسي على نحو مباشر ويومي، وتنقش على جلده حياً كان أو ميتاً وسائل السيطرة والممارسات الاستعمارية الإسرائيلية" كما تقول سهاد ظاهر-ناشف.[3]

ينبئ ظاهِر هذه السياسة بأنها وسيلة لمعاقبة عائلات الشهداء، إلاّ إنها سياسة استعمارية مركّبة تهدف إلى تحطيم النظم الاجتماعية والقيم الحياتية المرتبطة بالمجتمع، وعلاقته مع جثامين الموتى والشهداء، وهي تضاف إلى قائمة السياسات الاستعمارية الأُخرى، مثل سياسات الهدم العقابي والاعتقال الإداري. ويمتد التاريخ الطويل لهذه السياسة وغيرها من السياسات الاستعمارية التي عرفتها فلسطين إلى الاستعمار البريطاني، وضمنها إعدام الشهداء محمد جمجوم وعطا الزير من مدينة الخليل، وفؤاد حجازي من مدينة صفد، يوم 17 حزيران/ يونيو 1930 في سجن القلعة بمدينة عكا، ولاحقاً دفنهم في مدينة عكا بعيداً عن مدنهم ومقابر عائلاتهم، إذ شكل دفنهم من قبل الانتداب البريطاني أوائل حالات الحرمان والتنكيل بالشهداء وعائلاتهم في تلك الفترة.[4]

وطور الانتداب البريطاني خلال السنوات اللاحقة هذه السياسة وأَدرجها ضمن أنظمة الطوارئ (الدفاع) للعام 1945، حيث تنص المادة 133(3)، على سبيل المثال، بأنه "يحق لحاكم اللواء أن يأمر بدفن جثة أي شخص نُفذ فيه حكم الإعدام في السجن المركزي في عكا أو السجن المركزي في القدس في مقبرة الطائفة التي ينتمي إليها ذلك الشخص وفقاً لما قد يوعز به."[5] وقد تطورت هذه القوانين وانتقلت من الانتداب البريطاني إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي أدرجها ضمن القوانين الناظمة في فلسطين، ورسّخ الاحتلال أذرعه القانونية كافة لمواصلة احتجاز جثامين الشهداء.

وقد شهدت قضية احتجاز جثامين الشهداء تصاعداً كبيراً خلال انتفاضة الأقصى، حين قام جيش الاحتلال باحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في مقابر الأرقام، وهي مقابر عسكرية في الأغوار الفلسطينية والنقب ومنطقة الجولان، حيث يتم دفن الجثامين فيها وتحمل يافطات معدنية تُكتب عليها أرقام بدلاً من الأسماء. ومع اندلاع هبّة القدس في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، اتخذ الاحتلال عدداً من التدابير لمعاقبة الفلسطينيين وردعهم، منها تفعيل سياسة احتجاز الجثامين لدواعي "الأمن والنظام العام"، إذ احتجز خلالها الاحتلال المئات من الجثامين في ثلاجات الموتى وخصوصاً في معهد الطب العدلي "أبو كبير".[6]

الحق في الدفن: سياسات الموت الصهيونية

يدرك الفلسطينيون أن الاحتلال الصهيوني يسعى من خلال سياساته العقابية إلى السيطرة على جسد الفلسطيني، حياً وميتاً، وضبط كل ما يتصل بوجوده، وضمن ذلك هدم قِيَمِه ومنظومة حياته المتوارثة، والتي تشكل بنية المجتمع وطبيعته وهويته. ويشكل احتجاز جثامين الشهداء قضية أبعد من حرمان العائلات من حقها في دفن أبنائها، إذ تصل إلى تحديد متى وأين وكيف يتم العزاء، والأثر الاجتماعي المتعلق بشكل الجنازة وطريقة الدفن وطبيعة بيوت الأجر، ما يؤثر بالضرورة في بنية العائلة وعلاقتها مع الفقد، وتعاملها اجتماعياً مع الموت بصورة عامة، والموت المحمّل بروح القداسة كما في حالة الشهداء، وفي هذا تخريب لبنية المجتمع الفلسطيني.

ومن المُسلّم به إنسانياً أن يحظى الميت بالحق في الدفن في تراب وطنه، وهو واجب مضاف في حالة الشهيد، ولذلك ناضل الفلسطينيون، وما زالوا، من أجل هذا الحق. وتستند المطالبة باستعادة الجثامين وتكريم الشهداء إلى عدة شرائع وقوانين حددت آلية التعامل مع الموتى وإعادة الجثامين؛ فيحدد القانون الدولي الإنساني خمس قواعد عرفية لمعاملة قتلى الحرب ورُفاتهم ومقابرهم تشمل: القاعدة 112 المتعلقة بالبحث عن الموتى وجمعهم، والقاعدة 113 التي تنص على حماية الموتى من السلب والتشويه، والقاعدة 114 المتعلقة بإعادة رفات الموتى وممتلكاتهم الشخصية، والقاعدة 115 بشأن التخلّص من الموتى، والقاعدة 116 بشأن تحديد هوية الموتى.[7]

كما تؤكد اتفاقيات جنيف الأولى لعام 1949 في المادة 17 على أهمية إجراء دفن لائق وكريم، وتنص على أنه ينبغي على أطراف النزاع "ضمان الدفن الكريم للموتى، وإن أمكن وفقاً لطقوس الدين الذي ينتمون إليه، واحترام قبورهم، وتجميعها إن أمكن حسب الجنسية الوطنية، ثم صيانتها وتمييزها بحيث يمكن العثور عليها دائماً."[8] وتنص أيضاً المادة 120 من اتفاقية جنيف الثالثة،[9] والمادة 130 من اتفاقية جنيف الرابعة،[10] والمادة 34 من البروتوكول الإضافي على الالتزام بتسهيل إعادة جثث ورفات الموتى.[11]

تصاعد احتجاز الجثامين في الضفة الغربية

تصاعدت سياسة احتجاز جثامين الشهداء بشكل كبير منذ بداية الحرب الصهيونية على قطاع غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وقد سجلت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء حتى اللحظة احتجاز جثامين 569 شهيداً، مقسمين على الشهداء المحتجزين في مقابر الأرقام، وهم 256 شهيداً، وهذا الرقم يشير إلى ما استطاعت الحملة توثيقه منذ عام 1967، بالإضافة إلى توثيق احتجاز 313 شهيداً منذ عودة سياسة الاحتجاز عام 2015، ويوجد بينهم 55 شهيداً من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً، و32 شهيداً من الحركة الأسيرة الذين ارتقوا داخل سجون الاحتلال، بالإضافة إلى تسع شهيدات.[12]

والجدول التالي مبني على قائمة الشهداء المحتجزين الموثقة لدى الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء حتى تاريخ كتابة هذه الورقة، وقد وقمتُ بعمل مقارنة حول ارتفاع عدد الشهداء المحتجزين من سنة 2016 حتى ذلك التاريخ.

يشار أيضا إلى أن الاحتلال يحتجز جثامين 6 شهداء من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والذين ارتقوا خلال عمليات في شمال فلسطين المحتلة.[13] كما تصاعدت سياسة الاحتجاز في المناطق المحتلة عام 1948، حيث يحتجز الاحتلال جثامين 7 شهداء، آخرهم الشهيد الأسير وليد دقة، بناء على قرار من "مجلس حرب الاحتلال" برفض تسليم الجثامين واحتجازهم لغرض استخدامهم في صفقة التبادل.[14] وفي هذا تغيير في السياسة، ذلك بأن الاحتلال لم يحتجز سابقاً جثامين الشهداء من مناطق عام 1948، إذ كان يتم تسليمهم خلال أيام ضمن شروط دفن وكفالات مالية بسبب حيازة الشهداء على الجنسية الإسرائيلية، وبالتالي في وقتها لم ينطبق عليهم شروط الاحتجاز كورقة ضغط في أي صفقة تبادل مثلما يحدث مع الشهداء الآخرين.

يشار أيضاً إلى أن 53% من الشهداء الموثقين حالياً منذ عودة سياسة الاحتجاز في عام 2015 هم شهداء ارتقوا منذ بداية الحرب الحالية، إذ يحتجز الاحتلال منذ بداية الحرب جثامين 167 شهيداً[15] من أصل 313 شهيداً محتجزين منذ عام 2016. ويشير الجدول أعلاه إلى احتجاز جثامين 81 شهيداً في عام 2023، وبالنظر إلى تواريخ الاحتجاز نرى أن 54% (44 شهيداً) منهم احتُجز منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى نهاية العام. ويعمد الاحتلال منذ بداية الحرب على احتجاز أكبر عدد من جثامين الشهداء للمساومة عليهم في صفقات مرتقبة مع المقاومة، وخصوصاً مع احتجاز المقاومة لجثامين أسرى من الجنود والمستوطنين، كما نرى أيضاً أن تسليم جثامين الشهداء انخفض بشكل كبير، إذ سلمت سلطات الاحتلال جثامين 11 شهيداً فقط منذ السابع من أكتوبر حتى اليوم.[16]

احتجاز جثامين شهداء غزة

وفي ظل استمرار حرب الإبادة على قطاع غزة، لا تتوفر معلومات دقيقة بشأن جثامين الشهداء الذين ارتقوا في السابع من أكتوبر أو ممن سُرقت جثامينهم من قطاع غزة خلال الحرب. ومما تم توثيقه فلسطينياً أنه بتاريخ 18/11/2023، وخلال اقتحام مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة، سرق جيش الاحتلال جثامين 145 شهيداً، جزء منهم من مقبرة أقيمت حديثاً داخل المجمع.[17] وبتاريخ 6/1/2024، وخلال اقتحام قوات الاحتلال لحي الدرج في غزة، نبشت هذه القوات مقبرة الحي وسرقت جثامين 150 شهيداً، بحسب مكتب الإعلام الحكومي في غزة، الأمر الذي تكرر خلال اقتحام جيش الاحتلال مدينة خان يونس، حيث دمّر مقبرة الحي النمساوي بتاريخ 17/1/2024 وسرق عدداً لم يُعرف من الجثامين. وكان ادعاء جيش الاحتلال حينها أن الهدف من سرقة الجثامين هو إجراء فحوصات الحمض النووي لها للتأكد من عدم وجود أي من الأسرى ضمنها.

وفي تموز/ يوليو 2024 ظهرت بعض المعلومات عن جثامين الشهداء المحتجزين من قطاع غزة، إذ كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية أن الاحتلال الإسرائيلي يحتجز نحو 1500 جثمان لفلسطينيين لم تُعرف هويتهم في حاويات مبردة داخل القاعدة العسكرية المعروفة باسم "سديه تيمان"، وأنه تم تصنيف الجثامين بالأرقام وليس بالأسماء. وذكرت الصحيفة أن الجثامين وصلت إلى مرحلة معينة من التحلل، وبعضها مفقود الأطراف، والبعض الآخر بلا ملامح، ويرجّح أن الجثامين تعود إلى شهداء ارتقوا خلال الأيام الأولى من الحرب على غزة.[18]

وكانت سلطات الاحتلال قد سلمت جثامين 423 شهيداً مجهول الهوية على عدة دفعات، وتم دفنهم في مقابر جماعية في خان يونس ورفح جنوبي القطاع، الأمر الذي يفتح باب الفقدان لمئات العائلات في قطاع غزة، والتي تنتظر خبراً عن مصير أبنائها.[19] ويشار إلى أن الإشكالية الأكبر فلسطينياً في هذا الملف هي أن القطاع الصحي في فلسطين لا تتوفر فيه فحوصات الحمض النووي،[20] وبالتالي يجب لاحقاً فتح هذه المقابر بما فيها من أعداد ضخمة، وأخذ عينات من الشهداء ومقارنتها مع عائلات المفقودين لتحديد هويتهم.

وعليه؛ ومع استمرار الحرب المسعورة وغير المنضبطة إنسانياً وأخلاقياً، يوجد آلاف المفقودين، ومَن تم إخفاؤهم قسراً، ما يزيد من تحديات الوصول إلى معرفة مصيرهم مع استمرار الحرب، وخصوصاً مع استمرار آلة القتل ومنع الوصول إلى الشهداء، الأمر الذي يؤدي إلى تحلل الجثامين وفقدان المعالم الدالة على هوية الشهداء.

الجثامين كأوراق مساومة

استخدم الاحتلال جثامين الشهداء كأوراق ضغط تفاوضية مع الفلسطينيين لأول مرة من خلال التماس حول هذه الممارسة قُدم إلى المحكمة العليا في عام 1994، نيابة عن عائلة الشهيد حسن عباس، أحد عناصر كتائب القسام والمحتجز جثمانه لدى الاحتلال. وقد اشترط مكتب المدعي العام في حينها العثور على جثة إيلان سعدون، الجندي الإسرائيلي الذي قتل عام 1989، في مقابل الإفراج عن جثة عباس. وأكد قرار المحكمة في وقتها أن الكشف عن مكان جثة الجندي قبل الإفراج عن جثة عباس شرط معقول إلى حد ما، وأنه اعتبار مشروع.

وكان استخدام جثامين الفلسطينيين كأوراق تفاوضية مثار نقاش قانوني منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ شرعنت المحكمة العليا الإسرائيلية هذه السياسة، معتبرة أن استخدامها مشروع ضمن أهداف القانون بناءً على معايير "المعقولية" و"الملاءمة". واستندت إسرائيل في هذه السياسة إلى أنظمة الدفاع (الطوارئ) التي تعود إلى حقبة الانتداب البريطاني، وتم تأويل السياسة بطرق مختلفة عبر السنوات، ما أدى إلى تفسيرات متباينة في المحاكم بشأن شرعية هذه الممارسة.[21]

وكان آخر القرارات التي اتخذتها سلطات الاحتلال في هذه القضية ما صدر في أيلول/ سبتمبر 2019 حين أقرت "المحكمة الإسرائيلية العليا" إمكانية احتجاز الجثامين، واستخدامها للتفاوض في صفقة تبادل محتملة، بناء على المادة 133 من قانون الطوارئ البريطاني، ويسري هذا القرار على الجثامين المدفونة في مقابر الأرقام، ويُسمح بنقل الجثامين المحتجزة في الثلاجات إلى مقابر الأرقام بعد اتباع إجراءات التسجيل والتوثيق كافة.[22]

استرداد جثامين الشهداء

ناضلت عائلات الشهداء، بشكل منفرد، منذ بداية استخدام الاحتلال لسياسة احتجاز جثامين الشهداء، لاسترداد أبنائها، ونجحت بعض العائلات في ذلك، كعائلة الشهيد علي طه.[23] وفي عام 2018 انطلقت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين بمبادرة من مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، واستطاعت تحقيق بعض الإنجازات؛ فقد استطاعت تشكيل مرجع حول الجثامين المحتجزة، وخصوصاً في ظل غياب وثائق رسمية بشأن سياسة الاحتجاز، وغياب آليات توثيق قانوني وحقوقي في وقتها، وبالتحديد لطرحها لهذه القضية المركزية في ظل غيابها عن أجندة العمل الحقوقي والسياسي الرسمي الفلسطيني، وعدم تقديم أي مطالبات بشأن الجثامين في المفاوضات التي تلت اتفاقيات أوسلو، على الرغم من أن قضية الأسرى أخذت حيزاً مهماً من الحديث السياسي.

وقد بدأت الحملة بالعمل القانوني لمحاولة استرداد جثمان الشهيد مشهور العاروري من بلدة عارورة قضاء رام الله بعد عملية التوثيق التي قامت بها، وتمكنت عائلة العاروري من استعادة رفاته من مقابر الأرقام منذ عام 1976 بتاريخ 10 آب/ أغسطس 2010. كما استطاعت عائلة حافظ أبو زنط من مدينة نابلس استرداد رفات نجلها بتاريخ 9 تشرين الأول/ أكتوبر2011 بعد جهود قانونية.[24]

وفي تموز/ يوليو 2012 سلمت سلطات الاحتلال رفات 91 شهيداً وشهيدة إلى السلطة الفلسطينية ضمن ما عُرف حينها ببوادر حسن النية لاستئناف المفاوضات،[25] وفي الفترة 2013-2014، سلمت جثامين 27 شهيداً وشهيدة كانوا ضمن قرار من المحكمة العليا الاسرائيلية بتسليم 36 جثماناً، لكن الاحتلال تراجع عن التسليم بحجة "الدواعي الأمنية".

ومنذ عودة سياسة الاحتجاز في عام 2015، سلمت سلطات الاحتلال جثامين 262 شهيداً تم احتجازهم في ثلاجات الاحتلال لفترات متفاوتة بين أيام وسنوات، وجزءٌ من هؤلاء الشهداء المحررين كانت تُفرض على ذويهم شروط قاسية، منها الدفن ليلاً، أو دفع كفالات مالية عالية، أو تحديد عدد المشيعين. وقد كانت هذه الشروط تُفرض بشكل أساسي على ذوي الشهداء من مدينة القدس المحتلة ومناطق 48.[26]

وطُرحت قضية تبادل الجثامين كملف أساسي خلال مباحثات صفقة التبادل الحالية، إذ شملت المرحلة الثالثة من الأطر المرجعية للصفقة تبادل الجثامين بعد التعرف عليها. وهذه المرة الأولى التي يُطرح فيها موضوع جثامين الشهداء في صفقة تبادل مع الفلسطينيين، كون المقاومة تحتفظ بجثامين لأسرى إسرائيليين. في حين تم تحرير جثامين 517 شهيداً خلال صفقات تبادل عقدت بين الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله اللبناني وأيضاً الجيش السوري، كان آخرها صفقة التبادل التي عُقدت عام 2008، والتي أُفرج خلالها عن جثامين أكثر من 200 شهيد من الشهداء الفلسطينيين واللبنانيين والعرب الذين كانوا محتجزين في مقابر الأرقام.[27] 

خاتمة

ارتقى الشاب محمد حسن أبو غنام شهيداً على مدخل بلدته "الطور" شرقي القدس المحتلة يوم الجمعة 23/7/2017، خلال الهبّة الشعبية التي اندلعت رفضاً لوضع البوابات على مداخل المسجد. وكان المشهد اللافت بعد استشهاد أبو غنام هو ما حدث مع جثمانه بعد إعلان استشهاده في مستشفى المقاصد بالقدس، فقد "هرّب أصدقاء الشهيد محمد جثمانه من المستشفى قبل أن تخطفه قوات الاحتلال وتأسره، وشيعوه على عجل كي يحظى بالدفن."[28]

تعبّر هذه القصة وغيرها من السعي لاسترداد الجثامين عن وعي الفلسطينيين بأهمية تحرير الشهداء، ورفضهم للمساومة عليهم، ونسيان هذه القضية على الرغم من مرور عشرات الأعوام. كما تشير إلى يقين أهالي الشهداء بقيمة طقوس الدفن والعزاء وتحرير أجساد الشهداء، بما في ذلك من تحدٍّ لسياسات الاستعمار، الأمر الذي يتطلب النضال الجماعي من أجل استعادة الجثامين كونها جزءاً من ذاكرتنا النضالية، ومن أجل حماية البنية الثقافية المجتمعية في مواجهة مستمرة لمحاولات الاحتلال سلبنا إنسانيتنا.

وتستمر سياسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في ظل حرب الإبادة الحالية كجزء من العنف الاستعماري المستمر، والذي تصاعد على كل المستويات بهدف فرض السيطرة لا على الأرض والشعب الفلسطيني فحسب، بل على أجساد الفلسطينيين بعد الموت أيضاً. ويظهر احتجاز الجثامين، بهذا الشكل الكبير، والممتد من غزة والضفة ومناطق 48، وصولاً إلى اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، كجزء من استراتيجيا أوسع تهدف إلى الضغط على الفلسطينيين عبر سرقة الجثامين والتنكيل بها واستخدامها كأوراق تفاوض في أي صفقة تبادل قادمة.

 

 

[1] "جيش الاحتلال يحتجز جثامين شهداء في معسكر سدي تيمان"، "ألترا صوت".

[2] بدور حسن، "دفء أبنائنا".

[3] سهاد ظاهر - ناشف، "الاعتقال الإداري للجثامين الفلسطينية: تعليق الموت وتجميده"، "مجلة الدارسات الفلسطينية"، صيف 2016.

[4] عوض الرجوب، "92 عاماً على ʾالثلاثاء الحمراءʿ.. ماذا فعل الشهداء الفلسطينيون الثلاثة قبيل إعدامهم؟"، "الجزيرة نت"، 17/6/2022.

[5] نظام الدفاع (الطوارئ) لعام 1945، موقع الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.

[6] مقابلة مع المحامي محمد أبو سنينة الذي يعمل على قضايا احتجاز الشهداء.

[7] قواعد القانون الدولي الإنساني، موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

[8] اتفاقية جنيف لعام 1949، موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

[9] اتفاقية جنيف الثالثة، موقع جامعة منيسوتا.

[10] اتفاقية جنيف الرابعة، موقع جامعة منيسوتا.

[11] البروتوكول الإضافي لجنيف، موقع الأمم المتحدة.

[12] ورقة حقائق\ موقع مقابر الأرقام، 8/2024.

[13] المصدر نفسه.

[14] "لإبقائهم كورقة مساومة: ʾالكابينتʿ الإسرائيلي يقرّر عدم تحرير جثامين 7 شهداء من الـ48 بينهم المناضل وليد دقّة"، موقع وكالة "وفا"، 2/9/2024.

[15] البروتوكول الإضافي لجنيف، موقع الأمم المتحدة.

[16] "الشهداء المحررين خلال عام 2024"، موقع الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء.

[17] "سرقة الاحتلال لجثامين شهداء بغزة تثير الغضب بمواقع التواصل"، "الجزيرة"، 22/5/2024.

[18] "مفهرسة بأرقام.. الاحتلال يحتجز جثامين 1500 فلسطيني في ʾسدي تيمانʿ"، موقع "التلفزيون العربي"، 16/7/2024.

[19] البروتوكول الإضافي لجنيف، موقع الأمم المتحدة.

[20] "ماذا لو وُجد فحص الـ (DNA) في فلسطين؟"، موقع "وكالة معا"، 2/11/2013.

[21] بدور حسن، مصدر سبق ذكره.

[22] قرار المحكمة العليا الإسرائيلية رقم 10190/17.

[23] هنادي عدامة، "رحلةُ البحث عن جثمان علي"، موقع "متراس"، 9/5/2018.

[24] "الجهود القانونية التي رافقت استرداد جثمان الشهيد حافظ أبو زنط"، مركز معلومات وادي حلوة، 11/10/2011.

[25] "تشييع 91 شهيداً في فلسطين"، "الجزيرة نت"، 1/6/2012.

[26] “Adalah demands Israel immediately return bodies of Al Aqsa shooting suspects,”Adalah, 20/7/2017.

[27] "تحرير جثامين الشهداء العرب والفلسطينيين خلال صفقات التبادل"، الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين.

[28] "أبو غنام.. لاحقه جنود الاحتلال بالمستشفى حتى استشهد"، "الجزيرة نت"، 24/8/2017.

عن المؤلف

حسين شجاعية: باحث ومنسق حملات في مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان.