المحامية نادية دقة - فارءة معي- ١ نيسان ٢٠٢٤
لطالما آمنت أن الأداة القانونية الإسرائيلية، وخصوصًا في مجال حقوق الإنسان، هي سيف ذو حدين. ولا شك أن كل من يستعمل هذه الأداة لامس هذا الأمر. فعلى سبيل المثال، وفي محاولة انتزاع الحقوق من خلال هذه الأداة قد تكتشف أن بإمكانها أن تكون “عنيفة" في بطئها إلى حد التعذيب. هذا في الوضع العام، أما اليوم ومنذ اندلاع الحرب المستعرة على غزة، هذا السيف أصبح ذا حدٍّ واحد وواضح.
كما في كثير من المجالات فإن اندلاع الحرب وإسقاطاتها وردود الفعل تجاهها أزالت الكثير من القشور عن كثير من المسائل ولعل المجال القانوني كان من أبرزها.
لا تحتاج الى خبرة طويلة في مجال تمثيل المعتقلين والأسرى الفلسطينيين كي تقرأ المشهد، فإن حجم "الكارثة" التي حلت في هذا الصدد لا يحتاج الى عقود من الخبرة كون التحول حاد ولا يمكن تجاهله. وجب التنويه الى أن وصف التحول بالحاد لا يلغي وجود انتهاكات على مستوى "الروتين اليومي" في السجون الإسرائيلية، فوصف التغيير بالحاد لا يأتي من أجل تبسيط الوضع السابق وإنما لاستحضار الأبعاد الكارثية لحالة الحرب الموازية التي أُعلنت على الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
من الطبيعي في زمن الحرب، وخصوصا في حرب مثل الحالية، أن يكون المشهد الطاغي على شاشاتنا هو مشهد الحرب "التقليدية": القتل، والدمار، والنزوح والجوع. إلا أن ما يحصل في السجون يحمل أوجهًا عديدةً من الشبه لما يحصل في غزة، لكن تغطية الحدث والتفاعل الشعبي لا يرتقيان إلى مستوى الحرب.
وليس هذا بالأمر المفاجئ! فللأسف وعلى مر السنين، نجحت إسرائيل إلى حد ما بتغييب الأسرى الفلسطينيين عن المشهد العام بفعل سياسات العزل عن العالم الخارجي وسياسات ضرب روح الجماعة على حساب النضالات الفردانية. منذ الانتفاضة الثانية قامت إسرائيل بالحد من قدرة الأسير بالتواصل مع العالم الخارجي وبالأخص مع الحيز الذي ينتمي له فاقتصر هذا التواصل على أفراد عائلة معدودين ومن تربطهم صلة قرابة من الدرجة الأولى فحسب.
نجح هذا التغييب بعض الشيء، وبفعل الزمن، نجح كذلك في الحد من التفاعل الشعبي مع قضايا الأسرى. حتى بتنا نرى في السنوات الأخيرة أن النشاطات التي رافقت إضرابات الاسرى، اقتصرت في الغالب على ذويهم وبعض من حولهم. وربما من أكثر المشاهد المؤلمة التي تدعم هذا الاستنتاج المؤسف هو صور زوجة الأسير الشهيد خضر عدنان وهي تعتصم في رام الله إسنادا لزوجها المضرب عن الطعام شبه وحيدة. أما بالنسبة للشق الثاني الذي أضعف من التفاعل الشعبي مع قضايا الأسرى فهو الحالة الفردانية التي طغت على أشكال النضال للأسرى. وأحد الأمثلة على ذلك هو الإضرابات الفردية عن الطعام التي خاضها المعتقلون الإداريون، وأصبح مشهد الإضرابات الجماعية التي تقوى على تحشيد الجماهير لدعمها مشهدًا نادرًا يكاد يغيب تمامًا.
وما كان استحضار هذه المقدمة إلا لعرض منطق سياسة إسرائيل التضييقية تجاه الأسرى الفلسطينيين لإيضاح تصاعد حدّتها في ظل الحرب على غزة. ومع إعلان الحرب أعلنت إدارة السجون الإسرائيلية حالة طوارئ مستمرة حتى كتابة هذه السطور. في نصه المكتوب، قانون الطوارئ (أمر ساعة) يفيد بأن الحركة اليومية للأسرى ستقيّد الى الحد الأدنى الذي يلزم به القانون. صيغة شبيهة مفصلة أكثر ظهرت في التزام إدارة السجون أمام المحكمة العليا الإسرائيلية في التماس قدمته مؤسسات حقوقية إسرائيلية ضد الانتهاكات غير المسبوقة لظروف الأسر لكل الأسرى السياسيين الفلسطينيين.
في حقيقة الأمر، الوضع في السجون بعيد عن توفيرِ الحد الأدنى من الحقوق التي يفرضها القانون الإسرائيلي رغم عدائيته المعهودة للأسرى الفلسطينيين. ومع إعلان الحرب تحولت السجون الى معسكرات يحتجز فيها آلاف الاسرى الذين وصل عددهم في بداية شهر آذار إلى 9077 أسيرًا (في حين أن العدد في بداية تشرين الأول كان 5192 أسيرا). تم عزل الأسرى بشكل تام عن العالم الخارجي فقد توقف ما تبقى لهم من زيارات العائلة بشكل كلي، وحتى أن زيارات المحامين منعت بفعل القيود غير القانونية التي وضعتها إدارة السجون مما أدى إلى انقطاع المعلومات والرواية والشهادات حولَ الوضع الراهن داخل السجون، بالأخص في الشهر الأول من الحرب. علاوة على ذلك، وبخطوة غير مسبوقة منعت زيارات لممثلين من اللجنة الدولية للصليب الأحمر. شكل هذا تصعيدًا حادًّا لحالة العزل المعهودة، تكمن خطورته في استحالة الانكشاف تقريبًا على تفاصيل وظروف الاعتقال.
ففي البداية توالت الأنباء عن اعتداءات مستمرة على الأسرى بالضرب المبرح بشكل جماعي دون استثناء، وتفاقم الأمر مع تكرار حالات الاستشهاد في صفوف الأسرى، كمؤشر مباشر للاعتداءات وحالات التعذيب. فهناك من استشهد بفعل الاعتداء وهناك من فارق الحياة بفعل التعمد بعدم إعطاء العلاج اللازم. وفي فترة تقل عن 6 أشهر استشهد - فقط في السجون التابعة لإدارة السجون الإسرائيلية - 10 أسرى (ولا يشمل 27 معتقلا من غزة استشهدوا وفق الناطق العسكري للجيش الإسرائيلي بالمعسكرات).
وقد يظن المرء أن هذا أسوأ ما في الأمر إلا أن ظروفَ الأسر كما يرويها لنا الأسرى تكاد ترقى الى القتل البطيء المتعمد، ولا شك أنها سياسة عامة من التعذيب المستمر. فوفق روايات الأسرى في السجون المختلفة يعتمد السجان سياسة التجويع. ولتجسيد هذا الوصف علينا الخوض في بعض التفاصيل. فعلى سبيل المثال، حاليًا، وعلى مدار أشهر الحرب يتقاسم الأسرى طبق أرز مع 10 آخرين كوجبة للغداء، وأحيانًا قد يرافقها طبق واحد من الحساء لنفس العدد. منذ 6 أشهر لم يشبع أسير في السجن، وسادت حالة من الجوع في السجون.
أمر آخر قد يجسّد ما يعانيه أهلُ غزّة، بالتوازي مع السجون، شحّ المياه. حسب شهادات الأسرى في السجون المختلفة فرضت قيود على قدرتهم على الاستحمام، وإضافة الى النقص في الصابون ومواد التنظيف، فقد لا يستطيع الأسير أن ينعم بإمكانية الاستحمام لعدة أيام. وصلت هذه السياسات الى قمة التطرف في حالة سجن النقب، إذ أفاد بعض الأسرى القابعين فيه بأنهم لم يستحموا لفترات وصلت الى عشرات الأيام. فضلًا عن أن إدارة السجن قيّدت تدفق المياه إلى دورة المياه لساعة في اليوم فقط، وهذا لوحده قد يجسد حجم الكارثة الصحية التي قد يسببها شح المياه في ظل ظروف الاكتظاظ التي يقبعون بها.
إضافةً إلى كلّ ما ذُكر، وبعد مصادرة كل مقتنياتهم، اضطر كل أسير للاكتفاء بما كان يرتديه من ملابس قبيل الحرب، ما أدى الى بقاء الغالبية الساحقة منهم بذات الملابس لمدة أشهر طويلة دون إمكانية لغسلها، ودون مراعاة ظروف البرد الحالية، علما أن ما كان بحوزة الأسرى من ملابس قبل الحرب لم يكن ملائما لفصل الشتاء.
حتى فرص العلاج أصبحت أداة للتهديد، فوفق روايات الأسرى فإن إدارة السجون لا تتجاوب مع طلباتهم لتلقي العلاج في العيادة إلا في حالات "خطيرة" أو حين "يكون الموت وشيكا". حسب رواية الأسير ع.ش. في سجن النقب فإن يده كسرت بعد اعتداء وحشي عليه، ولم يراه طبيبٌ قطّ، حتى التأم كسره دون أي علاج ولا حتى مسكنات للألم.
إذا، فالاعتداءات والتهديد بالقتل المستمر، الجوع، نقص الماء، البرد ومنع العلاج. هكذا يبدو وضع الأسرى الفلسطينيين منذ ما يقارب 6 أشهر. وضع يحمل أوجُهَ شبهٍ كبيرة وشديدة التطابق مع ما يحصل في غزة، لكنه لا يتصدر العناوين، وتكاد تغيب هذه التفاصيل عن الكثيرين. مع العلم أن عدد الأسرى أقل كثيرا من عدد سكان غزة، إلا أنه بات واضحا أن سياسة التغييب وعزلهم عن العالم الخارجي نجحت هذه المرة أيضا في التأثير على تعاطي الشارع مع مثل هذه الكارثة.
وإذا كان هذا الشق الأول من السياسات المُتبعة، فلا بد من التطرق الى التصعيد على مستوى ضرب روح الجماعة على حساب النضال الفرداني. في الوقت الذي تمارس فيه هذه السياسات كعقوبة جماعية تجاه جميع الأسرى الفلسطينيين، باءت محاولة استعمال الأداة القانونية لمواجهة هذه السياسة العامة بالفشل، حيث رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماسات وجهت لها ضد السياسات العامة بادعاء أن ادارة السجون قد صرحت أنها تلتزم في القيود التي يسمح به القانون، وأن أي ادعاء قد ينفي ذلك يجب أن يأتي من خلال التماس فردي لأسير وحيد يحاول من خلاله عرض كيفية انتهاك إدارة السجون لحقوقه بشكل خاص.
إذا أمعنّا التأمل في مواجهة بين أسير وحيد ضد مؤسسة أمنية كإدارة السجون، فإننا ندرك أن إجراءً٠ كهذا هو بالواقع إجراء محكوم عليه بالفشل مسبقا، فأي من كلتا الروايتين سوف تتبنى المحكمة؟ في الواقع، فإن قدرة أي أسير لوحده على التأثير على المحكمة وإثبات الانتهاكات قد لا تتجاوز عرض جسده الهزيل.
على ما يبدو أن سياسة تحويل النضالات الحقوقية إلى فردية أثبتت نفسها، فجاءت المحكمة العليا الإسرائيلية (برمزيتها كأعلى مؤسسة قانونية في إسرائيل) وقمعت هذه المحاولة وقررت أن تستفرد بكل أسير يريد أن يواجه العقوبات الجماعية، حتى أضحى هذا الحد للسيف جليًا أكثر من حده الآخر الذي بات أكثر وهمية.
محامية متخصصة في مجال حقوق الإنسان