سرقة أعضاء جثامين الشهداء المحتجزة: الأبعاد السياسية والقانونية

مقدمة

تثار من جديد قضية استخدام جثامين الشهداء في مختبرات كليات الطب في بعض الجامعات الإسرائيلية وفقًا لتصريحات رئيس الوزراء محمد اشتية، في 4 تمّوز/يوليو 2022، لتضيف بعدًا جديدًا إلى جرائم الاحتلال وانتهاكاته عبر تورط مؤسسات أكاديمية في جرائم يحظرها القانون الدولي، إلى جانب تفشي العنصرية في هذه المؤسسات.

فما خطورة الانتهاك الإسرائيلي الجديد وتبعاته، إلى جانب جريمة احتجاز الجثامين أصلًا، وما مواقف الأطراف الفلسطينية والدولية إزاء ذلك، وما وسائل للسلطة الفلسطينية والمؤسسات الحقوقية لمواجهة ذلك؟

تواصل إسرائيل انتهاكاتها في ظل سياسة الإفلات من العقاب، في حين يحتاج الجانب الفلسطيني إلى تفعيل الملف لجهة إعداد خطة لمتابعة الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها، بالاستناد إلى قاعدة معلومات محدثة، وتعاون بين الأطراف ذات العلاقة من السلطة وذوي الشهداء والمؤسسات القانونية.

من مقابر الأرقام إلى الثلاجات

تتبع إسرائيل ‏سياسة ‏احتجاز جثامين الشهداء وسرقة أعضائهم منذ العام 1948، ‏فيما يعرف بـ"مقابر الأرقام"، ومنذ العام 2015، بدأت إسرائيل باحتجاز جثامين الشهداء في الثلاجات ضمن سياسة ممنهجة تتيح لهم سرقة المزيد من الأعضاء[1]، أو استعمالها لإجراء تجارب ودراسات في كليات الطب الإسرائيلية؛ وحسب أهالي الشهداء والتقرير الرسمي الذي نشرته وزارة الإعلام الفلسطينية، في 18 نيسان/أبريل، فإن ‏الاحتلال الإسرائيلي يحتجز "جثمان 104 شهداء في الثلاجات، و256 شهيدًا في مقابر الأرقام[2]، إضافة إلى احتجازه جثامين 13 شهيدًا منذ مطلع العام 2022.[3]

يتخذ الاحتلالُ الاحتجاز وسيلةً لمعاقبة أهالي الشهداء والضغط عليهم، ومحاسبتهم على فعل أبنائهم في إطار "سياسة العقاب الجماعي"، من خلال التنكيل بهم، وهدم بيوتهم، واعتقال أقاربهم، وإبعادهم عن مكان سكنهم، والتشديد على أفراد عائلتهم أمنيًا لردع الآخرين، وإيصال رسالة تحذيرية لمن يفكر في القيام بعملية جديدة. كما يستخدم الاحتلال سياسة الاحتجاز بوصفها ورقة تفاوضية لأي صفقات تبادل للأسرى محتملة مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي يوجد لديها أسرى إسرائيليون، كما حدث مرات عدة سابقًا في إطار المفاوضات السياسية مع السلطة الفلسطينية.[4]

تقارير وشهادات حية: معاقبة الفلسطينيين بعد الموت‎

يقابل الاحتلال الاتهامات الموجهة إليه بسرقة الأعضاء بالنفي القاطع، إلا أن بعض التقارير والشهادات الحية جاءت لتؤكد ادعاءات وشكوك أهالي الشهداء حول سرقة أعضاء أبنائهم.

اعترف يهودا هس، المدير السابق لمعهد أبو كبير للطب الشرعي في إسرائيل، بسرقة أعضاء الفلسطينيين في فترات مختلفة بين فترتي الانتفاضتين الأولى والثانية بموافقة القانون، وحمايته لهم، ووجهت صحيفة "أفتونبلاديت" السويدية، في مقال لها، اتهامات لمعهد أبو كبير بسرقة الأعضاء والاتجار بها ضمن شركات دولية غير شرعية.[5] كما أكد تقرير لشبكة "سي إن إن" الأميركية، في العام 2008، تورط إسرائيل في جرائم اختطاف وقتل للفلسطينيين لسرقة أعضائهم. وما يزيد من صحة هذه الاتهامات أن إسرائيل الدولة الوحيدة التي تحتجز جثامين الشهداء، وتمارسها بوصفها سياسة ممنهجة، وتُصنف كأكبر مركز عالمي لتجارة الأعضاء البشرية بشكل غير قانوني.[6]

كما يمكن الإشارة إلى الجهد البحثي المهم الذي قامت به مئيرة فايس، عالمة أنثروبولوجيا إسرائيلية، في كتابها التي أصدرته بعد الانتفاضة الثانية بعنوان "على جثثهم الميتة" (أو "الجسم المتبقي")، ووثقت فيه المفارقات في تعامل الاحتلال مع جثث الإسرائيليين والفلسطينيين بعد موتهم، وعمليات سرقة الأعضاء والجلد التي يقوم بها الاحتلال بحق جثامين الفلسطينيين؛ لزرعها في أجساد الجنود والمرضى اليهود، ولرفد بنك الجلد الإسرائيلي؛ فضلًا عن استخدام الأعضاء للدراسة في كليات الطب الإسرائيلية.[7]

وأشارت فايس، بعد زيارتها معهد "أبو كبير"[8]، خلال المدة 1996-2002، إلى أن تلك العمليات كانت تتم بصورة ممنهجة، وأنه "لا يمكن لأُناس غير مهنيين أن ينتبهوا إلى نقص الأعضاء"، لا سيما بعد استبدال الأطباء قرنيات الشهداء بأدوات بلاستيكية، واستئصال الجلد من منطقة الظهر لكي لا تلاحظ العائلة فقدان تلك الأجزاء أثناء عملية التسليم والدفن، فضلًا عن أخذ صمامات القلب والكبد والكلى وأعضاء أخرى.[9]

ومن الأمثلة على ذلك، الشهيد محمد أبو النصر، الذي استشهد في غزة العام 1989، واحتجز الاحتلال جثمانه، وبعد محاولات وضغوط من قبل الصليب الأحمر لتسليم جثمانه، تم تسليم الجثمان بعد سنتين من الاحتجاز، لتتفاجأ العائلة أن الموجود في التابوت جزء من جسم حصان، لتكشف العائلة النقاب عما حصل أمام الإعلام والرأي العام؛ ما دفع الصليب الأحمر للتدخل مرة أخرى لتسليم الجثمان. وفي المرة الثانية، استلمت العائلة جثمانًا لشخص آخر رأسه مفصول عن جسده، واستطاعت العائلة معرفة أن الجثمان ليس لمحمد من خلال عدد الرصاصات الموجودة في الأجزاء الباقية من قدمه، وبعد محاولات ومماطلات تم تسليم الجثمان، وتم توثيق جميع ما ذكر من قبل الصليب الأحمر.[10]

وتبعًا للسابق، تعدّ التقارير الشهادات أعلاه دليلًا واضحًا على قيام إسرائيل "بارتكاب جرائم حرب" تحاسب عليها وفقًا لنظام روما للعام 1998.

مواقف القوانين الدولية والمؤسسات الحقوقية: الهيمنة على جسد الفلسطيني حيًا وميتًا

تسعى إسرائيل تاريخيًا إلى قوننة انتهاكاتها بحق الشهداء، من خلال إيجاد مسوغات تُجيز احتجاز جثامين الشهداء وسرقة أعضائهم، فقد أقرت "المحكمة العليا الإسرائيلية" في العام 2019 " قرارًا يُتيح "للقائد العسكري" باحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين "ودفنهم مؤقتًا لغرض استخدامهم كأوراق تفاوضية مستقبلًا.[11]

وفي أواخر العام 2021، أُقرت سياسة عدم تسليم جثامين منفذي العمليات الفدائية من قبل بيني غانتس، وزير الحرب الإسرائيلي، ليقوم الكنيست باستغلال الموقف والضغط باتجاه تشريع قانون "يخوّل شرطة الاحتلال احتجاز جثامين الشهداء".[12]

اختراق منظومة القوانين الدولية بشكل كامل

يعد احتجاز جثامين الشهداء انتهاكًا صريحًا لقواعد القانون الدولي الإنساني، كما تخالف سياسة الاحتجاز وفرض الشروط المقيدة والمهينة معظم المعاهدات والاتفاقيات والقوانين الدولية؛ حيث تحظر المادة 50 من "معاهدة لاهاي" للعام 1907 بشأن قوانين وأعراف الحروب سياسة احتجاز جثامين الشهداء، وفرض شروط مقيدة ومهينة على ذويهم قُبيل تسليمهم الجثامين، باعتبارها "عقوبة جماعية" يحظرها أيضًا البندان 15 و17 من اتفاقية جنيف. كما تنتهك تلك السياسة اتفاقية جنيف الأولى، والمادة "27 من اتفاقية جنيف الثالثة ... إلخ، "، وكذلك "قرارات لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب".[13]

في هذا السياق، ترقى سياسة احتجاز الجثامين ورفض الاعتراف والإفصاح عن أماكن تواجدها إلى جريمة "الإخفاء القسري" الواردة في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري[14]، كما تناهض قواعد التعامل مع جثامين قتلى الحروب، التي ينص عليها القانون الإنساني العرفي"، وكذلك "البند الثاني من المادة 12" من "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المتعلق بالشعوب الأصلية".[15]

تدين جميع المؤسسات الحقوقية الفلسطينية سياسة احتجاز جثامين الشهداء وسرقة أعضائهم،  وتصدر تقارير دورية عن مفصلة عن الجثامين المسلمة إلى أهالي الشهداء قبل دفنها، إضافةً إلى تقارير توثق سرقة بعض الأعضاء كقرنيات العين، لتقوم بإرسالها إلى الجهات الفلسطينية المختصة والمحاكم الدولية.[16]

مواقف الأطراف الفلسطينية ذات العلاقة

تتعامل السلطات الإسرائيلية مع قضية احتجاز جثامين الشهداء على أنها ملف سياسي مغلق وقضية منتهية غير قابلة للتفاوض، وأنها الوحيدة التي يحق لها أن تقرر ماذا سيحدث في هذه القضية من دون أي اعتبارات للقوانين الدولية والجانب الفلسطيني وذوي الشهداء.

ومع تزايد الإجراءات والسياسات الإسرائيلية المُجحفة بحق جثامين الشهداء، لا توجد خطة تحرك واضحة، على المستويين السياسي والقانوني، لمحاسبة إسرائيل؛ ما يستدعي البحث عن آليات وطرق أكثر فاعلية للضغط على الجانب الإسرائيلي.

ويمكن تسجيل النقط التالية التي تضعف الموقف الفلسطيني وحججه:

أولًا: نقص المعلومات المتعلقة بموضوع سرقة الأعضاء بشكل عام، واستخدامها في كليات الطب الإسرائيلية بشكل خاص[17]، وقصور المُعطيات المتعلقة باحتجاز الجثامين، واقتصار المعلومات الموجودة على المصادر الإسرائيلية والدولية والأطباء الأجانب، وبعض الشهادات الحية لأهالي الشهداء، ويظهر ذلك في تقرير وزارة الإعلام الفلسطينية للعام 2022 واستشهاده بتقارير من الأعوام 2002 و2008 و2015[18]، وبتصريح رئيس الوزراء المبني على تقارير سابقة.[19]

ثانيًا: استخدام مصادر ومعلومات قديمة منذ سنوات طويلة يعود بعضها إلى 20 عامًا، من دون بناء قاعدة بيانات ومعلومات حديثة تعزز الرواية الفلسطينية حول الانتهاكات الإسرائيلية التي حدثت ما بعد هذه التواريخ، والتي تشمل قضية سرقة الأعضاء، أو استخدام الجثامين في مختبرات كلية الطب، وهو ما يتطلب أيضًا معلومات حول الجهات الإسرائيلية المتورطة في هذه الجرائم، بما فيها الأطباء المشاركون والمسؤولون في كليات الطب وغيرهم.

إن من شأن ذلك أن يتيح إعداد ملفات حول هذه القضية مدعمة بالوثائق والأدلة لتقديمها إلى جهات دولية ذات الاختصاص، بما فيها المحكمة الجنائية الدولية التي تُقدم فيها الدعاوى ضد الأفراد وليس الدول، أو المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية.

ثالثًا: لا توجد لجان رسمية فاعلة أو حملات شعبية ضاغطة على سلطات الاحتلال، حتى في أبسط الحقوق، كمعرفة مصير الشهداء.[20] وعلى الرغم من اعتماد مجلس الوزراء الفلسطيني منذ العام 2008 يوم 27 آب/أغسطس "يومًا وطنيًا لاسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب"[21]، فإنه لا توجد سياسة واضحة وفاعلة على أرض الواقع؛ ويتجلى ذلك في التصريح الأخير الذي لم يتخذ أي موقف جاد وواضح تجاه استخدام أعضاء الشهداء في كليات الطب سوى مطالبة "الجامعات العالمية بمقاطعة الجامعات الإسرائيلية، والضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف هذه السياسة، والمطالبة بالإفراج الفوري عن الجثامين"، من دون التشديد على محاسبة الأطباء، والشركات المتورطة، ومن دون اتخاذ إجراءات عملية.[22]

رابعًا: عدم وجود تعاون حقيقي وفاعل بين السلطة وأهالي الشهداء المُحتجزة جثامينهم؛ ما يزيد من تعقيد الموضوع، ويتجلى ذلك في عدم إبلاغ أهالي الشهداء بمعلومة "استعمال الجثامين في كليات الطب" قبل تصريح رئيس الوزراء بها[23]، وعدم إعطاء الأهالي أي أخبار واضحة ومؤكدة حول الموضوع.[24]

خامسًا: يشتكي أهالي الشهداء من ضعف الجانب القانوني، وقلة تعاون وتواصل المؤسسات الحقوقية ذات الصلة مع بعضها البعض؛ ما يعيق إيجاد منطق قانوني واحد للضغط بصورة جماعية على محكمة العدل العليا، وخاصةً فيما يتعلق بتسليم الجثامين.[25] في المقابل، يرى المحامون والمؤسسات ذات الاختصاص أنهم يبذلون جهودًا كبيرة في هذه القضية على الرغم من انسداد الأفق القانوني، وتحويل الموضوع من قبل الاحتلال إلى قرار سياسي، إلا أن المحاولات لإيجاد ثغرات قانونية ما زالت موجودة، وأن التعاون موجود ومستمر بين المؤسسات، وضمن فريق قانوني وطني مشكل من كافة المؤسسات ذات الصلة، ومجلس الوزراء، ووزارة العدل، ووزارة الخارجية، الذي قدم العديد من المراسلات.[26]

سادسًا: يكتفي الجانب الفلسطيني بالعديد من الحالات بمعاينة الجثامين فقط، إضافة إلى إقناع البعض منهم بدفن أبنائهم من دون التشريح إكرامًا لهم، على الرغم من شكوك الأهالي الكثيرة حول سرقة أعضاء أبنائهم بعد رؤيتهم للجثامين؛ إذ أكد بعض الأهالي تغير "لون الجلد إلى الأبيض، ووجود ثقوب في منطقة الصدر، أو هبوط واضح، واختلاف شكل العيون ... إلخ"[27].

أما الجانب الفلسطيني فيؤكد إجراءه فحوصات كاملة وصورًا طبقية للجثامين بعد تسليمها، ومعاينة بعض الحالات بطلب من العائلة، أما فيما يتعلق بموضوع التشريح ففي أغلب الحالات تشترط إسرائيل عدم تشريح جثامين الشهداء مقابل الإفراج عنهم، وأن أي مخالفة للشروط ستكلفهم غرامات كبيرة، أو سحب الجثمان منهم واعتقال أفراد العائلة[28]، كما أن عدم تشريح بعض الجثامين الأخرى يعود إلى قرار من العائلة.[29]

خاتمة

تحظى قضية احتجاز جثامين الشهداء خاصة لدى الشعب الفلسطيني، بأهمية كبيرة، لا سيما مع تزايد أعداد الشهداء في ضوء تصعيد سياسة القتل والإعدام الميداني واحتجاز الجثامين، من دون أن يكون هناك رادع يجبر إسرائيل على وقف سياسة احتجاز الجثامين، وبالتالي من المهم السعي باتجاه تشكيل حراك وطني سياسي وقانوني وديبلوماسي فاعل، للضغط بصورة أوسع على السلطات الإسرائيلية لتسليم جميع الجثامين المحتجزة، والتزامها بالقانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، لا سيما المادة 17 من اتفاقية جنيف الأولى، التي تلزم الدول المتعاقدة باحترام "جثامين ضحايا الحرب من الإقليم المحتل وتمكين ذويهم من دفنهم وفقًا لتقاليدهم الدينية والوطنية"[30].

وعلى أهمية تحديد يوم وطني لاسترداد الجثامين، فإن التصدي للانتهاكات الإسرائيلية يتطلب وضع خطة شاملة مستندة إلى قاعدة بيانات محدثة، بما يضمن تحويل هذه القضية إلى عمل يومي وفعل مستمر على المستويين الوطني والشعبي.

المصدر: المركز الفلسطينيّ لأبحاث السياسات والدّراسات الإستراتيجيّة (مسارات)