الأسرى الفلسطينيون المحررون: أجساد منهكة... ومعنويات تطال عنان السماء

  

 الأسرى الفلسطينيون المحررون: أجساد منهكة... ومعنويات تطال عنان السماء مقالات 

مع نهاية كل أسبوع منذ وقف حرب الإبادة الجماعية، نترقب إعلان أسماء الأسرى الفلسطينيين المنوي الإفراج عنهم في اليوم التالي، ونتابع القوائم الصادرة عن الجهات الفلسطينية المختصة، ونفحص من سيُجرى الإفراج عنه إلى الضفة الغربية وغزة، ومن سيتم إبعاده قسراً خارج الوطن، بقلوب تملؤها البهجة والحماسة من جهة، والتوتر والحزن من جهة أُخرى.

وعلى الرغم من محاولات سلطات الاحتلال التنغيص على عائلات الأسرى المنوي الإفراج عنهم عبر قمع تجمع الأهالي أمام معسكر عوفر حيث يتم الإفراج عن الأسرى، والتهديدات التي تتلقّاها العائلات من جانب استخبارات الاحتلال لعدم إقامة أي مظاهر احتفال بالإفراج عن أبنائهم، وفرْض الإغلاق ووضع الحواجز على مداخل المدن والقرى لمنع حركة الفلسطينيين، فإن هذه التضييقات لم تمنع تجمهر الفلسطينيين، شباناً وشيوخاً ونساءً وأطفالاً، لاستقبال المُحرَّرين الأبطال.

وما يلفت الانتباه في هذا الجانب أنه على الرغم من الجرائم التي تعرّض لها الأسرى الفلسطينيون على مدار عام ونصف العام، ومعاناتهم جرّاء الضرب المبرح الذي تعرّضوا له قبيل الإفراج عنهم، فإنهم أصرّوا في كل المقابلات التي أجريت معهم لحظة الإفراج على التعبير عن فخرهم بالحشود التي حضرت لاستقبالهم؛ فكلما سأل صحافي أسيراً محرَّراً عن الوضع داخل السجون لوصف ما تعرضوا له، لم يكن الأسير يستجيب للسؤال، ويكرر أن كل هذه المعاناة تزول بمجرد رؤية هذه الحشود التي حضرت من كل مكان لاستقبالهم.

على مدار ثلاثة أسابيع، تحرر من سجون الاحتلال في المرحلة الأولى من صفقة التبادل على خمس دفعات 766 أسيراً وأسيرة، عدد كبير منهم من الأسرى المحكومين بالمؤبد والأحكام العالية، ومعظمهم تم اعتقاله في أوائل الألفية الثانية خلال الانتفاضة الثانية، وأمضوا ما يزيد على 20 عاماً في السجون، وأكدوا جميعاً أنه على مدار أعوام اعتقالهم، لم يتعرضوا لهذا الحجم من الانتهاكات والجرائم، وأن فترة اعتقالهم قبل بدء حرب الإبادة الجماعية بحق شعبنا كلها تعادل في قساوتها العام ونصف العام الأخير.

ولم تكتفِ قوات الاحتلال بكمّ التعذيب الجسدي والنفسي الذي ارتكبته بحق الأسيرات والأسرى الفلسطينيين خلال حرب الإبادة، بل أيضاً أصرت على تعذيبهم حتى اللحظات الأخيرة قبيل الإفراج عنهم؛ فقامت إدارة مصلحة السجون بنقل الأسرى المنوي الإفراج عنهم إلى عدد من أماكن الاحتجاز؛ إذ تم تجميع الأسرى من الضفة الغربية في سجن عوفر، والأسرى المنوي إبعادهم وأسرى قطاع غزة جُمعوا في سجن النقب، أمّا أسرى القدس، فاختلفت إجراءات الإفراج عنهم، فبعضهم نُقل إلى منزله بمرافقة قوات الاحتلال لفرض رقابة على الاستقبال وضمان عدم تواجد أي شخص في منزل الأسير المُحرَّر سوى عائلته النواتية، والبعض الآخر تم الإفراج عنه في المسكوبية بعد استدعاء شخص من عائلاته.

وأفاد الأسرى المُحرَّرون أنهم تعرضوا لشتى أنواع التنكيل في السجون والمعسكرات المتعددة التي نُقلوا إليها، إذ جرى تكبيلهم لساعات طويلة، وكان يتم سحب الأسرى والأسيرات على الأرض بعنف وَهُم مقيدون، ويتعرضون للشتم والإهانة. كما أُجبروا على مشاهدة مقطع فيديو يُظهر حجم الدمار الذي حلّ على قطاع غزة خلال حرب الإبادة الجماعية، وتعرضوا للضرب المبرح، وهو ما أدى إلى كسور في أضلاع عدد منهم، وهذا عدا عن خروج بعضهم وهم يعانون جرّاء مرض الجرب "السكابيوس" الذي نهش أجسادهم ولم يقدَّم إليهم العلاج اللازم لمعالجته.

وقد حذّرت المؤسسات الفلسطينية العاملة في مجال الأسرى على مدار أشهر من الأوضاع الصعبة التي يعاني جرّاءها الأسرى والأسيرات داخل سجون الاحتلال، وجرّاء التعذيب وسوء المعاملة التي تعرضوا لها، بالإضافة إلى جريمة التجويع. ومع الإفراج عن عدد من الأسرى والأسيرات، ومنهم كبار السن والمرضى، تمكنّا من مشاهدة آثار هذه الجرائم التي مورست بحقهم؛ إذ فقدوا كثيراً من أوزانهم، ونُقل عدد كبير منهم إلى المستشفيات لتلقّي الرعاية الطبية اللازمة التي حُرموا منها طوال أشهر، وسيحتاجون إلى أشهر وأعوام للتعافي من الآثار الجسدية والنفسية التي لحقت بهم جرّاء ممارسة كل هذه الجرائم بحقهم.

إن كل ممارسات سلطات الاحتلال، وخصوصاً تلك التي مورست بحق الأسيرات والأسرى الفلسطينيين قبيل الإفراج عنهم، تؤكد أن الاحتلال يسعى لفرض السيطرة والهيمنة بحق الشعب الفلسطيني، ويضاف إلى ذلك أنه يمارسها كإجراء انتقامي بحق الأسرى؛ فمن جانب، تلقّى الأسرى جميعهم، قبل الإفراج عنهم، تهديدات بتصفيتهم أو إعادة اعتقالهم، بالإضافة إلى التهديد بعدم إقامة أي مراسم استقبال أو إجراء أي مقابلات صحافية والظهور في الإعلام، ومن جانب آخر، جرى تهديد عائلاتهم بمنع استقبال أبنائهم، وقامت قوات الاحتلال باقتحام عدد من المنازل والقاعات بهدف منع استقبال الأسرى، واعتقلت عدداً آخر. وكل ذلك تَلَخّص في جملة على لسان عدد من جنود الاحتلال: "ممنوع تفرحوا."

على الرغم من المشاهد الصادمة التي رأيناها بعد الإفراج عن الأسيرات والأسرى الفلسطينيين، والآثار الظاهرة للتعذيب وسوء المعاملة التي تعرضوا لها، فإن إرادتهم ومعنوياتهم تطال عنان السماء، وإن لم يقوَ الجسد المنهك على الوقوف، فإن الروح صامدة لا تلين. فأعوام الأَسْر لم تنل من عزيمتهم، ولم تكسر كل المعاناة صمودهم. إنهم شهود على غطرسة احتلالٍ مجرم، وحكاياتهم ستظل شاهدة على جرائمه وعلى عظمة إرادتهم أمامها.

يجب ألاّ نكتفي بفرحة تحرير الأسيرات والأسرى الفلسطينيين، ولا بانتهاء معاناتهم المباشرة داخل السجون، إنما حان الوقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، لمحاسبة دولة الاحتلال قانونياً على جرائمها بحقهم، ومحاسبتها على التعذيب الذي تعرضوا له على مدار أعوام اعتقالهم، وعلى انتزاع الاعترافات منهم تحت التعذيب والإكراه، ومحاكمتهم أمام محاكم عسكرية غير قانونية، وإصدار أحكام تعسفية بحقهم. ويجب أن نطالب الآن بتعويض الأسرى المُحرَّرين عن كل هذه الجرائم التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي بحقهم، وعن أعوام طويلة أمضوها تعسفاً داخل سجون الاحتلال بعيداً عن أحبائهم. لن نكتفي بتحريرهم، بل أيضاً سنعمل على محاسبة مرتكبي الجرائم بحقهم قانونياً.