جرائم الإخفاء القسري: أبرز أوجه حرب الإبادة على قطاع غزة

  

جرائم الإخفاء القسري: أبرز أوجه حرب الإبادة على قطاع غزة 

06/11/2024

المؤلف: الاسير المحرر عبد الناصر فروانة

ملف خاص- مؤسسة الدراسات الفلسطينية : 

189 فلسطينياً؛ هم إجمالي عدد أسرى قطاع غزة لدى الاحتلال الإسرائيلي قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر2023. كنا نعرف هوياتهم وأسماءهم، وعرفنا العديد منهم عن قرب، كما كنا نملك سيرة ذاتية وصورة شخصية لكل واحد منهم، ونعلم مكان احتجازه وتفاصيل حياته وراء القضبان، وما وراء الشمس. ولا أذيع سراً إذا كشفت عن تواصلنا مع بعضهم عبر الهواتف المحمولة (المهربة)، لمن كان يملك هاتفاً ذكياً، وهو ما أتاح فرصاً للتواصل بالصوت والصورة، مع الإشارة إلى أن بعضاً من هذا الوصف يقتصر على فترة وجيزة سبقت حرب الإبادة، ولا ينطبق على حال الأسرى وأوضاع السجون الإسرائيلية على مدار أعوام الاحتلال الطويلة.

أمّا اليوم، وبعد عام وأكثر من حرب الإبادة على قطاع غزة، فقد ازداد عددهم، وأصبح بالآلاف بحسب ما نسمعه من شهادات يرويها الناجون من الموت أو المفرَج عنهم بعد اعتقال أو احتجاز، لكن اللافت في الأمر هو أن هذه الأرقام هي نتاج اجتهادات وتقديرات؛ إذ ما زلنا نجهل أعدادهم الحقيقية والمعطيات الإحصائية الخاصة بهم، ولا نملك معلومات عن تصنيفاتهم بحسب الجنس وفئات العمر، وبالتالي، فلا تتوفر لدينا قوائم كاملة بأسمائهم، ولم يُكشف كذلك عن مكان اعتقالهم، أو توزيعهم على مراكز الاحتجاز، ولا نعرف طبعاً أوضاع اعتقالهم، فباتوا ضحايا للاختفاء القسري، وهم في عداد المفقودين، في انتظار المصير المجهول ما لم يُكشف عن مصيرهم. 

أحياء أم أموات؟

إن تلك المعطيات وغيرها، بالإضافة إلى ما تم تسريبه من مشاهد صادمة، وما سمعناه وقرأناه من شهادات مروعة، كلها تخفي ورائها الإجابة عن هذا السؤال. بعد ما كُشف عنه من بشاعة التعذيب وقسوة المعاملة وأوضاع الاحتجاز، ولا سيما في سجن سديه تيمان السرّي، علاوة على ما أعلنته مؤخراً شبكة "سي إن إن" الأميركية عن استخدام معتقَلي غزة دروعاً بشرية،[1]  والذي يتقاطع مع تقرير سبق أن نشرته صحيفة "هآرتس" العبرية،[2]  وينسجم أيضاً مع رواية المؤسسات الفلسطينية، وما تناقلته من شهادات أدلى بها بعض الضحايا في هذا الشأن،[3]  فضلاً عن أعداد الشهداء المتداولة التي تقدَّر بالعشرات، وهي أرقام غير نهائية،[4]  فقد بات من غير المعلوم مصير من اعتُقلوا من غزة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، واختفوا قسراً، ولا يُعرف إذا ما كان جميعهم أحياء حتى الآن، أم إن هناك بينهم مَن أُعدم ميدانياً أو قُتل حين تم استخدامه درعاً بشرياً، أو سقط شهيداً بفعل التعذيب في السجون السرّية، وأخفي جثمانه، ولا سيما بعدما كشفت وسائل إعلام عبرية ودولية في وقت سابق عن استشهاد عشرات آخرين من معتقَلي غزة، من دون أن تذكر أسماءهم أو تكشف عن أوضاع استشهادهم، وبينها صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.[5]

ومن الممكن أن يكون قد انضم إليهم آخرون كُثر من دون أن نعلم بهم، كما من المتوقع أن يلحق بهم آخرون مع قادم الأيام، من دون أن يُكشف عن بعضهم، ويمكن ألاّ تُعلن أسماؤهم أبداً، ويذهبون في عداد المفقودين إلى الأبد. لقد بتنا لا نعرف المعتقَلين أين يُحتجزون، ولا أعداد مَن استشهدوا وأسماءهم، وأين دُفنت جثامينهم، فالإخفاء القسري طال الأحياء والأموات من الفلسطينيين! 

لمحة عن الاختفاء القسري وموقف القانون الدولي

وفقاً لما ورد نصياً في المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، فإنه "يقصد بـ 'الاختفاء القسري‘ الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون."[6]

وهذا يعني نفي كل أشكال الحماية القانونية والحقوق الأساسية لضحايا الاختفاء القسري الذين من الممكن أن يحتجَزوا في أماكن غير رسمية أو سرّية تحرمهم الحرّية، وتنتهك حقوقهم الإنسانية بصورة خطِرة وصارخة، وتُلحق بهم الأذى، وتُعرّض حياتهم للخطر، وربما تفضي فعلاً إلى الموت. لذا، فإن الاتفاقية المذكورة حظرت الاعتقال السرّي، وجرّمت الاختفاء القسري، ونصت في موادها على ما يلي: "1. لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري. 2. لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري." كما ألزمت الدول الأطراف بتجريم الاختفاء القسري وجعْله جريمة يعاقب عليها القانون، مؤكدة في المادة الخامسة أنه عندما يمارَس الاختفاء القسري على نطاق واسع أو بطريقة منهجية، فإنه يشكل جريمة ضد الإنسانية كما تم تعريفها في القانون الدولي.[7]

يُذكر أن الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري اعتُمدت من جانب الأمم المتحدة سنة 2006، ثم دخلت حيز التنفيذ سنة 2010، واستندت إلى مجموعة من الاتفاقيات والصكوك الدولية ذات الصلة بمجالات حقوق الإنسان والقانون الإنساني والقانون الجنائي الدولي الصادرة عن الأمم المتحدة، ومنها الإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 133/47 المؤرخ في 18 كانون الأول/ديسمبر 1992. [8] 

الإخفاء القسري: هل هو ممارسة إسرائيلية مرتبطة بحرب الإبادة على غزة؟

إن ضحايا الإخفاء القسري من الفلسطينيين منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 كُثر اليوم، ويُعدون بالآلاف، وهم الذين اختفوا قسراً وفعلياً بعيداً عن أُسَرِهِم وأحبائهم ومجتمعهم، بعد أن اعتقلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال الحرب من الشوارع ومن داخل منازلهم، أو من المستشفيات ومراكز النزوح والإيواء والممرات "الآمنة"، أو من ساحات المواجهة والاشتباك، وتنكرت لذلك الأمر، وفرضت تعتيماً إعلامياً بشأنهم، وترفض تقديم معلومات عنهم والإفصاح عن هوياتهم، أو إعلان مكان وجودهم، وما زالت تصرّ على عزلهم وإخفائهم عمداً، ففرضت طوقاً على سجونها، المعلنة والسرّية، وأبقت أبوابها موصدة أمام وكالات الأنباء العالمية والمؤسسات والشخصيات الحقوقية، الإقليمية والدولية، ولا تكترث بحملات الانتقاد، كما لم تتجاوب مع النداءات والمطالبات الدولية للكشف عن مصيرهم، وإعلان أسمائهم وأماكن احتجازهم، والسماح بزيارتهم والتقائهم. ولترسيخ ذلك، فقد اتخذت مجموعة من التدابير بناء على أوامر عليا، منها:

أولاً: إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، في اليوم الأول لبدء الحرب قراراً باعتبار مَن سيتم اعتقالهم من قطاع غزة مقاتلين غير شرعيين، بغض النظر عن فئاتهم العمرية، أو إذا كانوا مقاومين مسلحين أم مدنيين عزّل. وهذا يعني بموجب القانون المذكور أن هذه الفئة من المعتقَلين الفلسطينيين تقع خارج نطاق اتفاقيتَي جنيف الصادرتين في 12 آب/أغسطس 1949، وبالتالي تفقد حقوقها الأساسية، ولا تتمتع بأي نوع من الحماية بموجب القانون الدولي،[9]  علاوة على التعديلات التي أدخلتها سلطات الاحتلال إلى القانون المذكور مع بداية الحرب، والتي ساهمت في ترسيخ جريمة الاختفاء القسري.

ثانياً: أصدر وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، وهو المسؤول المباشر عن السجون الإسرائيلية، أمراً في بداية الحرب بوضع أسرى حركة "حماس"، وما يصفونهم بالنخبة، في سجن تحت الأرض، من دون توضيح عددهم وهوياتهم. كما امتنعت سلطات الاحتلال من الإدلاء بمعلومات بشأنهم، ولم تكشف حتى اللحظة عن أسمائهم أو الأماكن التي تمّ احتجازهم فيها.[10]  هذا فضلاً عن احتجاز الآخرين من معتقلي غزة الجدد في منشآت عسكرية وسجون سرّية، كان أبرزها سجن سديه تيمان في الصحراء جنوباً، والذي افتُتح خصيصاً مع بداية الحرب من أجلهم، ثم يتم نقل بعضهم إلى أقسام داخل سجون ومعسكرات معلومة، كعوفر، ومجدو، والنقب، والمسكوبية، وغيرها، وفيها يُفصَل معتقلو غزة تماماً عن المعتقلين الآخرين، ولا يُسمح لهم بالاختلاط أو التواصل معهم، علاوة على تشديد أوضاع احتجازهم.

ثالثاً: قرار وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، وقْف الزيارات العائلية لكل الأسرى والمعتقَلين الفلسطينيين، وعزلهم عن العالم الخارجي، وليس فقط لمعتقلي غزة الجدد، ولا يزال التوقف مستمراً.[11]

رابعاً: عدم السماح لممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بصفتها الجهة الدولية المسؤولة عن هذا الملف، بزيارتهم والتقائهم ومعرفة أماكن احتجازهم، كما ترفض سلطات الاحتلال تسليمها قوائم بأعدادهم وأسمائهم وبيانات وافية عنهم، الأمر الذي دفع أكثر الحلفاء دعماً لها خلال الحرب إلى تضمين رسالة أميركية رسمية وُجهت حديثاً إلى الحكومة الإسرائيلية، وكُشف النقاب عن مضمونها مؤخراً، تطالبها بالسماح للصليب الأحمر بزيارة المعتقَلين الفلسطينيين.[12]  وبحسب صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية، فإن المجلس الأمني والسياسي الإسرائيلي المصغر (الكابينيت) ناقش الطلب الأميركي قبل بضعة أيام من دون تغيير يُذكر في هذا الصدد.[13]

خامساً: فرض قيود مشددة وصارمة على عمل المحامين لجعل زيارة المعتقَلين صعبة ومتباعدة زمنياً قدر الإمكان.

وقد مُورس الإخفاء القسري في مراحل سبقت حرب الإبادة على غزة؛ ففي سنة 2003، كُشف الستار عن السجن السري رقم 1391، والذي أطلق عليه الفلسطينيون "غوانتانامو الإسرائيلي"، إذ ثمة أوجه تشابه كبيرة بينه وبين معسكر الاعتقال غوانتانامو الأميركي، ولا سيما بشأن ما يتصل بجرائم الاختفاء القسري والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان.

وبعكـس معسـكر الاعتقـال الأميركي، فإن السجن الإسرائيلي لا يُعرف مكانه، وليست هناك صور فوتوغرافية قريبة أو حتى بعيدة المدى للمحتجَزين فيه كالتي أُخذت للمحتجَزين في حجيرات معسكر غوانتانامو الأميركي. وبخلاف ما جرى في معسكر الاعتقال الأميركي، لم يُفحص أو يُفتش السجن الإسرئيلي 1391 مطلقاً من جانب هيئة مستقلة، كهيئة الصليب الأحمر الدولي، ويُعتبر ما يحدث في هذا السجن لغزاً غامضاً في عِلم الغيب، كما يصفه الصحافي الإسرائيلي والبريطاني جوناثان كوك.[14]  وتقول المحامية الإسرائيلية ليئا تسيمل، والمتخصصة في الدفاع عن المعتقَلين الفلسطينيين: "أي شخص يدخل هذا السجن يختفي، ومن المحتمل للأبد."[15]

وفي سنة 2009، طالبت لجنة الأمم المتحدة ضد التعذيب إسرائيل بالكشف عن السجن السرّي 1391 وغيره من السجون السرّية وإغلاقها. وفي رده على ذلك، ادعى القائم بأعمال المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، شاي نيتسان، الذي مثَل أمام لجنة الأمم المتحدة ضد التعذيب، أن إسرائيل أوقفت استخدامه سنة 2006،[16]  وهذا إقرار إسرائيلي بأن السجن كان قائماً ومستخدَماً، بينما لا يزال الاعتقاد سائداً لدى الكثيرين بأنه لا يزال قائماً، وهناك سجون وأماكن احتجاز سرّية أُخرى تستخدمها دولة الاحتلال. 

الكشف عن أسماء المئات من معتقلي غزة

عودة إلى بدء، وارتباطاً بمعتقّلي غزة، وعلى الرغم من القيود المشددة، وبعد أشهر من بدء الحرب، فقد تمكن محامو المؤسسات الحقوقية من زيارات محدودة لبعض معتقَلي غزة في بعض السجون ومعسكرات الاعتقال، بينما سُجلت الزيارة الأولى لسجن سديه تيمان السرّي في منتصف حزيران/يونيو الماضي، أي بعد أكثر من 8 أشهر على بدء الحرب، حين سُمح لمحامي هيئة شؤون الأسرى والمحرَرين بزيارة أحد معتقَلي غزة في السجن المذكور.[17] 

وعلى الرغم من هذا التطور، فإني لم أقرأ ما يشير إلى أن أياً من المحامين تمكن من الوصول إلى جميع منشآت الاحتجاز التي يتواجد فيها معتقَلو غزة، فنقل شهاداتهم، أو أنه سُمح لأحدهم بلقاء أحد مقاتلي فصائل المقاومة الفلسطينية، أو ممَن يوصفون بـ "عناصر النخبة" الذين طالب بن غفير بسجنهم تحت الأرض.

لكن على الرغم من محدودية الزيارات، فإنها تُعتبر مهمة؛ إذ مكّنت المحامين من الكشف عن مصير مئات المعتقَلين، ونقْل شهاداتهم، والكشف عن أوضاع احتجازهم. هذا بالإضافة إلى أنه مع كل عملية إفراج عن معتقَلين من غزة بين الحين والآخر، يُكشف عن أسماء جديدة لمعتقَلين رافقوهم والتقوهم وتعرفوا إليهم خلال فترة سجنهم، أو جاوروهم في مكان الاحتجاز، وترددت على مسامعهم أسماؤهم، فحفظتها ذاكرتهم، وكشفوا عنها بعد خروجهم.

وفي الآونة الأخيرة، تلقّت هيئة شؤون الأسرى، وبين الحين والآخر، ردوداً من سلطات الاحتلال كشفت عن مكان تواجد العشرات من معتقَلي غزة، من دون تقديم معلومات أُخرى بشأنهم، بينما لم تقدم إجابات بشأن مصير آخرين كانوا ضمن قوائم الأسماء، وفي كثير من الأحيان يمكن أن يتمثل رد السلطات الإسرائيلية في عدم وجود معلومات. وقد عبّر رئيس الهيئة عن عدم ثقته حين قال: "لا يوجد لدينا ثقة بهذه المعلومات ولكننا مضطرون للتعامل معها."[18]

إن الكشف عن مصير مئات المعتقَلين المختفين، وإن كانت نسبتهم ضئيلة مقارنة بالعدد الإجمالي لمن اختفوا قسراً خلال عام وأكثر من حرب الإبادة على غزة، خفف حدّ الألم والوجع الذي تعيشه عائلاتهم، ونقل أُسَرَهم طبعاً من حالة الانتظار غير المعلوم إلى حالة الانتظار الطبيعي المصحوب بالقلق الدائم. وبناءً على ما ذُكر، وكثير مما لم يُذكر من شهادات وتفاصيل، فإن جريمة الاختفاء القسري ليست ممارسة استثنائية مرتبطة بحرب الإبادة على قطاع غزة، إنما هي سياسة إسرائيلية ثابتة، وتنفَذ بصورة ممنهجة ومدروسة. ويعود تاريخ ممارسة الإخفاء القسري إلى عقودٍ سابقة بحق معتقَلين كُثر من جنسيات متعددة، وهذا الإخفاء لآلاف المعتقَلين الفلسطينيين، منذ بدء حرب الإبادة على غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ناتج من تنفيذ تلك السياسة، بناءً على أوامر وقرارات إسرائيلية عليا ساهمت في ترسيخ الجريمة وتوسيعها. ومن الواضح أن هناك ترابطاً ما بين جرائم الاختفاء القسري وأماكن الاحتجاز السرّية، كما من الممكن أن تكون لكليهما صلة بمقابر الأرقام واختفاء الجثامين.

فلربما بعض مَن اختفوا قسراً واحتُجزوا في أماكن سرّية قُتلوا أو توفوا بفعل التعذيب، أو بعد استخدامهم دروعاً بشرية، ودُفنت جثامينهم في مقابر الأرقام أو داخل حفر غير معلومة ومجهولة المكان، فاختفت وربما تختفي إلى الأبد، ومن هنا يمكن القول إن هذه الجريمة شكّلت أبرز أوجه حرب الإبادة على غزة.

إن إصرار دولة الاحتلال الإسرائيلي على الاستمرار في ممارسة الإخفاء القسري لمعتقَلي غزة، وعدم السماح لممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارتهم يكشف عن نيات إسرائيلية سيئة، ويخفي وراءه جرائم حدثت، وأُخرى مؤجلة الحدوث يمكن أن تُلحق بهم مزيداً من الأذى النفسي والجسدي، وربما تودي بحياة بعضهم.

ولطالما عانت عائلات المعتقَلين - المخفيين - وأفراد أُسَرِهِم، وتتفاقم معاناتهم يوماً بعد آخر، وهم يعيشون في حالة قلق متزايد، وانتظار غير معلوم، جرّاء الغموض الذي يكتنف مصير أحبتهم، فتجدهم يبحثون عن أي معلومة بشأنهم، ويكررون المحاولة مراراً من دون يأس، ولا يتوقفون عن الاتصال والتواصل مع المؤسسات المعنية في هذا الشأن، وهم يريدون أن يعرفوا ما إذا كان المختفي - ابنهم أو ابنتهم أو أمهم أو أبوهم أو أخوهم أو أختهم - في عداد الموتى فيدعون له بالرحمة وتستقر النفوس، أم حيّاً ومعتقَلاً في السجون الإسرائيلية، فيُكثرون له الدعاء بأن يفرّج الله كربه ويعيده سالماً.

وأخيراً، نذكّر بأن جرائم الاختفاء القسري المستمرة منذ أكثر من عام، يصنفها القانون الدولي على أنها جرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي يتطلب تحركاً دولياً عاجلاً فعّالاً ومؤثراً، ولا سيما من جانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر لإيقاف الجريمة والكشف عن مصير آلاف المعتقَلين الفلسطينيين المختفين قسراً منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، الأحياء منهم والأموات.

 

[1] "جندي إسرائيلي يفصّل استخدامهم الفلسطينيين كدروع بشرية في غزة.. ماذا قال؟"، "سي إن إن بالعربية"، 24/10/2024.

[2] "هآرتس: الجيش الإسرائيلي يستخدم فلسطينيين دروعاً بشرية بغزة"، "معا"، 13/8/2024.

[3] "الاحتلال استخدم أسيراً من غزة درعاً بشرياً لمدة 40 يوماً"، "القدس"، 15/8/2024.

[4] "في ضوء اعتقال 200 مواطن من جباليا: تحذير من ارتقاء المزيد من الشهداء بين معتقلي غزة"، شبكة فلسطين الإخبارية، 24/10/2024.

[5] "وول ستريت جورنال: وفاة 44 معتقلاً أثناء احتجازهم لدى الجيش الإسرائيلي"، "معا"، 9/8/2024.

[6] "الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري"، الأمم المتحدة حقوق الإنسان مكتب المفوض السامي، اعتُمد في 23/12/2010.

[7] المصدر نفسه.

[8] "إعلان حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري"، الأمم المتحدة حقوق الإنسان مكتب المفوض السامي.

[9] "إسرائيل تصنّف أسرى غزة 'مقاتلين غير شرعيين‘.. ماذا يعني ذلك؟"، "العربي"، 11/10/2023.

[10] "بن غفير يوعز باحتجاز مقاتلين من 'حماس‘ بسجن تحت الأرض"، "عرب 48"، 8/12/2023.

[11] آنا بارسكي، "بن غفير يوقع أمراً بتمديد شهر آخر بمنع جميع الزيارات للإرهابيين المسجونين في السجون"، "معاريف" (بالعبرية)، 9/8/2024.

[12] "يديعوت أحرونوت: رسالة أميركية قد تورط إسرائيل بالجنائية الدولية"، "الجزيرة نت"، 16/10/2024.

[13] "يديعوت : 'الكابنيت‘ بحث ثلاثة قضايا ساخنة في اجتماعات استمرت حتى فجر اليوم"، "سما الإخبارية"، 21/10/2024.

[14] جوناثان كوك، "السجن الصهيوني السري '1391‘ صورة حية للإرهاب الإنساني"، مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان، 10/8/2010.

[15] المصدر نفسه.

[16] "لجنة الامم المتحدة تطالب اسرائيل بالكشف عن المعتقل السري 1391"، المبادرة الفلسطينية لتعميق الحوار العالمي والديمقراطية "مفتاح"، 16/5/2009.

[17] محمد وتد، "يعايشون الموت.. المحامي محاجنة يروي للجزيرة نت ظروف الأسرى في 'سديه تيمان‘"، "الجزيرة نت"، 20/6/2024.

[18] "فارس يستقبل مدير مكاتب الصليب الأحمر في الضفة الغربية والقدس"، هيئة شؤون الأسرى والمحررين، 20/10/2024.

 

عن المؤلف: 

عبد الناصر فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة. ولديه موقع شخصي اسمه: فلسطين خلف القضبان.