قراءة في كتاب من القمع حتى السلطة الثورية للواء قدرى ابو بكر
بقلم الدكتور رأفت حمدونة*
*المدير العام بهيئة شؤون الأسرى ومدير دائرة القانون الدولى
أعتقد أن مفهوم الوفاء يكمن فى الإخلاص لمن يستحق خاصة إذا كان متنفذا غائباً بلا مصلحة، لأن الانقطاع عن استمرار الانتماء بعد الوفاة عقوق لأن الانقطاع بمجرد انتهاء المصلحة ليس أكثر من نفاق.
وأعتقد أن مثل هذه القراءات لكتب وأنشطة ودور شهيد الواجب رئيس هيئة شئون الأسرى والمحررين اللواء قدرى أبو بكر " رحمة الله عليه "، يأتى فى اطار الوفاء لمن يستحق حياً وميتاً ، لأن اللواء قدرى ابو بكر قبل أن يكون برتبة عسكرية سامية ، أو بدرجة وزير ورئيس هيئة فهو أب وصديق ووالد ومفكر ومسؤول صامت لم تغريه الألقاب ولا التكليفات ولا الماديات فى واجباته وعلاقاته وشهامته وأخلاقه وخدمته للاخرين وانتماءه لشريحة ضحت بزهرة شبابها لتحقيق الكرامة والحرية والسيادة والاستقلال .
ومن باب الوفاء هنا أتناول كتاب قديم بعمر أربعة وثلاثين عاما طبع فى عمان فى العام 1989م، وصدر عن دار الجليل للنشر، باسم " من القمع حتى السلطة الثورية" للواء قدرى ابو بكر اهتم فيه اللواء بتطور الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة التى بدأت بالقمع من قبل السجان والتى وصفت بشدة القمع والارهاب الممارس من قبل إدارة مصلحة السجون، وقد تأثرت الحركة الأسيرة وقتها بهزيمة حزيران 1967، والمتغير السياسي لصالح دولة الاحتلال الذى انعكس سلباً على واقع السجون ، ومن ثم تأثر الأسرى إيجاباً بحرب أكتوبر 1973، وقد شهدت السجون في أعقابه جرأة أكبر لتحقيق السلطة الثورية ومواجهة السجان، ومع وجود اللوائح التنظيمية والداخلية ، باتت حياة الأسرى أكثر انتظامًا وتنظيمًا .
ويقول شهيد الواجب اللواء قدرى أبو بكر فى كتابه " لن يدرك معنى الثورة إلا من يحياها ، و لم يدرك سمة الحياة الاعتقالية الا من عايشها، والكتابة عنها ستفقدها جوانب كثيرة ، فمن الصعب أن نروى كل الدقائق لأنه ما عاد بالإمكان تذكرها ، فالتشابه النسبى فى الحياة الاعتقالية هو أحد سماتها ، الطعام نفسه ، والعدو نفسه ، والقمع نفسه والجدران نفسها ووجوه السجانين جامدة لا تتغير وايديهم ملوثة ، ومن خضم المعاناة والآلام تبرز المقاومة والنضال .
وتحدث عن التجربة الاعتقالية في السجون والتى حافظت على الوحدة الوطنية (وحدة من خلال التعدد والعمل الديمقراطي) التي لم تعد موضوعاً للجدل بين الأسرى، ولقد وجد مبدأ الوحدة الوطنية تعبيراً منظماً له في إطار اعتقالي منظم ومنضبط، عبَّر عن أماني وتطلعات المعتقلين ، من خلال موجه عام يقف على رأس التنظيم وموجه قسم وموجه غرفة وموجه خلية، واللجنة المركزية على قمة الهرم التنظيمى تضع السياسة العامة، واللجنة الثقافية، كمشرفة على النشاط الثقافى والجلسات، بالاضافة إلى النشاط الأمنى والمالى والاجتماعى مع الضبط الادارى، وترسيخ الالتزام الثورى بالحياة التنظيمية فى ظل القانون تحت شعار لا فردية ولا انتهازية ولا مساومة بل روح المجموع وصمود ونضال .
وتناول الكتاب النشاط الإداري الذى لعب دوراً مهماً في هذا الجانب كونه يكفل تنظيم الحياة حسب قوانين الدستور التنظيمي، حيث تعالج من خلاله كل المخالفات اللامسئولة ويوقع العقاب على مخاليفيها، ولكن جوهر الحياة التنظيمية ليس العقاب، ولا فرض السلطة بل التوجيه والعمل بكافة الطرق على خلق القناعة الذاتية بالقيم التي عمادها المساواة، والأخوة النضالية، واحترام الآخرين وطاعة القوانين والمراتب العليا، التي عليها أن تحترم أيضاً عناصر التنظيم وتعاملهم على أساس الأخوة التنظيمية، لا فرض السلطة، فلا فرض بلا قناعة وإيمان وجهد مشترك، ومن أهم القوانين السلوكية التي يجب عدم مخالفتها الالتزام بنظام الغرف كالهدوء، فعلى الجميع التقيد بأوقات تحددها الغرفة ، والنشاط الإداري والقوانين واللوائح تكرس النظام في المجتمع الاعتقالي، وبهذا تنعدم الفوضى لأن عناصر التنظيم يعرفون ما لهم وما عليهم، ولا يتدخل أحدهم إطلاقاً في شؤون غيره، ففي الغرفة الموجه هو المسؤول المباشر ويتخذ إجراءاته المقبولة من الجميع دون تدخل ولا يتصرف أحد دون مشاورته وموافقته، لذلك تسير الحياة بنظام وهدوء.
هذا بالاضافة للنشاط الذهنى والثقافة والرياضي، فمثلما يهتم المجتمع الاعتقالي بالبناء العقلي للثوار، يهتم بنفس الدرجة بالبناء الجسدي، فالمقاتل النموذجي هو المسلح بوعي سياسي وقدرة جسدية ممكنة من تنفيذ المهام الصعبة بكفاءة عالية، ومن جهة أخرى الجلوس لفترات طويلة والانحسار داخل الغرف يضعف الجسد ويسبب العديد من الأمراض.
واعتقد اللواء قدرى أبو بكر فى كتابه من القمع حتى السلطة الثورية أن السلطة الثورية هي دكتاتورية الثورة، نظامها، قوانينها، إرادتها، مصالحها، مؤسساتها، فلسفتها، والثورة ضرورة فرضها واقع بحاجة إلى تغيير، فما هو الواقع الفلسطيني الذي احتاج إلى ذلك؟ لن نبحث عن هذا الواقع بالتفصيل ولكننا سنلقي الضوء على بعض جوانبه كي يسهل علينا بحث السلطة الثورية داخل المعتقلات.
الواقع الفلسطيني أو قضيته جزء من القضية العربية، أو الواقع العربي ككل أو لنقل أنه قضية الجماهير الفلسطينية التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من الجماهير العربية وكل قضاياها، كما أن القضية الفلسطينية هي وليدة سيطرة الكيان الصهيوني على الأرض العربية الفلسطينية مدعومًا من الإمبريالية بقيادة بريطانيا في (عصرها الذهبي) والولايات المتحدة كزعيمة غير منافسة بعد الحرب العالمية الثانية، وهي بذلك وليدة التطور الاقتصادي اللامتكافئ في العالم.
، ففي ظله وصلت أوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى الرأسمالية، ثم إلى مرحلتها العليا، بينما كان الوطن العربي ينفض عن كاهله سيطرة الإقطاع أو شبه الإقطاع (نقصد الإقطاع الآسيوي بكل مميزاته) ولأنّ النتيجة الحتمية اللاتكافؤ الاقتصادي الذي تستأسد فيه الإمبريالية هي الاستعمار والاستغلال بكافة أشكالهما.
مرة أخرى الواقع الفلسطيني بلغة التجزئة، هو الواقع اللاطبيعي المأساوي والمؤلم لهذا الشعب بجماهيره العربية والذي يمثل بمجمل جوانبه واقعًا منافيًا للتطور التاريخي غير عادل ولا إنساني، لذلك الثورة الفلسطينية تعبير عن التطور التاريخي والعدل والإنسانية، الثورة...هي النضال من أجل أهداف تمثل بمجملها الواقع الذي ترغب في سيادته والذي يمثل تطلعات الجماهير صاحبة القضية إلى واقعها الإنساني المقبل وهي من أجل تحقيقها - الأهداف - تخوض النضال بكافة أشكاله وتتبنى تكتيكًا وإستراتيجية ملائمين ، مستعدة في أي لحظة أن تفرض سيطرتها – سلطتها – الممثلة للجماهير المناضلة المعبّرة عنها على الأرض وخيراتها معبرةً عن رؤياها الاجتماعية.
وبذلك نقول: أن السلطة الثورية هي القوانين والأفكار التي تعبر عن نفسها من خلال مؤسسات تمتلك قوة التنفيذ والسيطرة، فارضة واقع الثورة المعبر والمقبول من القوى الثورية وجماهيرها.
ويقول اللواء قدرى أبو بكر أن الطريق إلى السلطة الثورية طويل وشاق، يحتاج إلى بذل وعطاء وقبل ذلك وأثناءه وبعده إلى بناء الإنسان، والبناء مؤطر، بأسس وقواعد علمية، فالثورة هي علم الوصول إلى السلطة ممارسة ووعيًا، وهي أيضًا علم الدفاع عنها بعد قيامها لضمان الاستمرار وتحقيق الأهداف (وبالتالي علم الوصول إلى الواقع الإنساني والحياة في ظله).
وإذا كنا داخل المعتقلات أبناء ثورة وجزءًا من تنظيمها ينطبق علينا كمجموع منظم كل ما ينطبق على الثورة، فنحن نناضل من أجل تحررنا وبناء مجتمعنا الثوري، لذلك نقاتل ونبني الإنسان كي يقاتل بشكل أفضل ويحطم هذا الكيان عسكريًا وسياسيًا واقتصادياً وثقافيًا، ويبني سلطة الثورة الإنسانية، لذلك فنحن جزء من جيش الثورة الذي يتبنى أساليبها ويدافع عن أفكارها ويجسد تطلعات جماهيرنا عمليًا في النضال ووعيه هادفًا لبناء السلطة الثورية فوق كل شبر يتم تحريره.
وكما شقّت الثورة طريقها الطويل لتحقيق ما حققته، خاض ثوارنا الأسرى دربًا طويلًا وشاقًا ولقد استطاع ثوارنا تحويل المعتقل الصهيوني من مراكز تحطيم وقمع ضد الذات المناضلة والمجموع المنظم إلى مواقع محررة تسيطر عليها السلطة الثورية وقوانينها ومؤسساتها وبالتالي مواقع ثورية تبني الإنسان رغمًا عن الأعداء.
واعتبر اللواء قدرى أبو بكر فى كتابه من القمع حتى السلطة الثورية أن الوحدة شرط أساسي لمواجهة العدو، فالانقسامات في خدمته وهي لعبته الرئيسة ، لذلك نستطيع القول أن المخاضات التي حدثت في السجون كانت تجربة مهمة ساعدت على إرساء أسس تنظيمية رائعة فيما بعد، فالمركزية والديمقراطية، والعلاقات الاجتماعية الثورية التي سادت فيما بعد ساهمت باندماجها مع كل تجارب السجون طوال الحياة الاعتقالية في ارتقاء الوعي الثوري والعلاقات الاجتماعية النضالية والبناء التنظيمي وهذا ما سنبينه لاحقًا ، والحياة النضالية وما يترتب عليها من انضباط ومسؤولية تتنافي مع الفردية والرغبة في التهرب والضياع .
وبذلك فالسلطة الثورية هي القوانين والأفكار التي تعبر عن نفسها من خلال مؤسسات تمتلك قوة التنفيذ والسيطرة فارضة واقع الثورة المعبرة عنها والمقبول من القوى الثورية وجماهيرها.
ومن هذا التعريف يمكن استنباط أسس السلطة الثورية في المعتقل، فالمجتمع الاعتقالي عنصره الأساسي الإنسان الذي يتميز بحياة اجتماعية تحكمها علاقات تحددها الأهداف وأساليب العمل لتحقيقها، وبالتالي أطر منظمة يفرغ الجهد البشري من خلالها وإذا كان لكل كيان اجتماعي سلطة، فالسلطة الثورية تتميز بكونها تمثل الثورة، لذلك تمثل المجموع الثوري وهي نظمه وأطره وقوانينه ، إذن السلطة هنا ليست مفروضة بل متطابقة مع الواقع وتمثل الكيان الاجتماعي خير تمثيل.